تركيا, التقارير

"مشارب الطيور".. عمارة عثمانية رحيمة تروي ظمأ الحيوان (تقرير)

المؤرخ والكاتب التركي ظفر بلكي: العثمانيون استلهموا مشاعر الرحمة من الآيات القرآنية، وجسّدوها في تعاملهم مع الحيوان

Zeynep Rakipoğlu, Hişam Sabanlıoğlu  | 18.05.2025 - محدث : 18.05.2025
"مشارب الطيور".. عمارة عثمانية رحيمة تروي ظمأ الحيوان (تقرير)

Istanbul

إسطنبول/ زينب رقيب أوغلو/ الأناضول

المؤرخ والكاتب التركي ظفر بلكي:
- العثمانيون استلهموا مشاعر الرحمة من الآيات القرآنية، وجسّدوها في تعاملهم مع الحيوان
- استقرار الدولة العثمانية وتطورها المعماري أتاح لها التركيز على التفاصيل الدقيقة، ومنها "مساكن الطيور"
- نحن أمام حضارة اهتمت بأدق التفاصيل، حتى للحيوانات خصصت عناصر معمارية تعبّر عن الرفق والرحمة

تُعد مشارب المياه الصغيرة المخصصة للطيور من أبرز الشواهد المعمارية التي تجسّد الرحمة والرفق بالحيوان في الحضارة العثمانية، فهي لا تزال قائمة منذ قرون، وتزيّن المساجد والمباني التاريخية في مختلف أنحاء تركيا، شاهدة على إحساس إنساني رفيع تجاه الكائنات الحية.

امتزجت مشاعر الرحمة في الحضارة العثمانية بفنون العمارة، فأنشأ العثمانيون مساكن صغيرة للطيور في جدران المساجد والمدارس والتكايا والخانات، وأقاموا مشارب مائية مزخرفة لتلبية احتياجات الطيور، في تجلٍّ فريد لما يُعرف بـ"عمارة الرحمة العثمانية" وهو إرثٌ معماري وثقافي يوثّق نظرة العثمانيين للطبيعة والحيوان.

تنتشر هذه المرافق الصغيرة عادة في زوايا الجدران، وتحت الأسقف، وبجوار النوافذ، لا كمجرد عناصر زخرفية، بل كرموز حيّة لرحمة الإنسان تجاه الحيوان.

وظلّت هذه المساقي والمشارب تروي ظمأ الطيور إلى يومنا هذا، على الرغم مما لحق بها من أضرار عبر الزمن، ساهمت جهود الترميم في إحياء كثير منها، لتبقى شواهد حية على عمق ثقافة العناية بالحيوان.

** عمق الحضارة

المؤرخ والكاتب التركي ظفر بلكي، أوضح في حديثه للأناضول أن العثمانيين استلهموا مشاعر الرحمة من الآيات القرآنية، وجسّدوها في تعاملهم مع الحيوان، "حتى أصبحت الرحمة جزءا أصيلا من البنية المعمارية للدولة".

وأشار بلكي إلى أن ساحة مسجد شهزاده محمد في إسطنبول، الذي بُني قبل نحو خمسة قرون، تحتوي على حوض مائي لسقي الحيوانات، إضافة إلى مشارب ماء مُخصصة للطيور على جدرانه، مؤكدًا أن "الرحمة تحولت في الدولة العثمانية إلى مؤسسة راسخة".

وأضاف أن استقرار الدولة وتطورها المعماري أتاح لها التركيز على التفاصيل الدقيقة، ومنها "مساكن الطيور" التي تنوّعت أشكالها بين الأكواخ الصغيرة والقصور المصغّرة، وتطورت لاحقًا إلى ما يُعرف بـ"مشارب الطير"، تلك الزخارف التي تُشاهد أسفل شرفات المآذن على شكل طبقات معمارية فنية.

وبيّن أن مشارب الطير كانت "عملية بقدر ما هي جمالية"؛ إذ صُممت لتجميع مياه الأمطار من الشرفات وتصفية الماء لتكوين أحواض طبيعية تروي عطش الطيور.

وأشار إلى نظام "ميزان الماء" المدمج في جدران بعض المساجد، مثل جامع شهزاده محمد، والذي ينقل المياه إلى الحنفيات العامة ويُخصص جزءًا منها لأحواض صغيرة تسقي الطيور، بحسب حجمها.

** لمسات معمارية

وأضاف بلكي أن هذه العناصر لا تقتصر على المساجد، بل تظهر أيضا في ساحات القصور، وحول النوافير، وفي أماكن الوضوء، "لتُجسّد بعدا جماليا وإنسانيا يُضاف إلى روعة العمارة العثمانية".

وقال: "نحن أمام حضارة اهتمت بأدق التفاصيل، حتى للحيوانات خصصت عناصر معمارية تعبّر عن الرفق والرحمة".

وأوضح أن هذا التقليد بدأ في منتصف القرن السادس عشر، وبلغ ذروته في القرن الثامن عشر، وتجاوز العمارة الدينية ليشمل القصور والمنازل، مشيرا إلى محاولات حالية محدودة لإحياء هذا التقليد في بعض المناطق.

وأكد أن وضع هذه المشارب تحت شرفات المآذن ساهم في حمايتها، إذ لا تزال مياه الأمطار تملؤها، لتظل صالحة لاستخدام الطيور حتى اليوم.

** الحفاظ على التراث

وشدد بلكي على أهمية ترميم هذه الزخارف والعناصر المعمارية، ووضع لوحات تعريفية بجوارها لتثقيف الزائرين بتاريخها وأهميتها.

وقال: "هذه المرافق بُنيت للطيور قبل 500 عام، وينبغي أن تبقى شاهدة على هذه الثقافة الرفيعة".

وأشار إلى أن هذه العناصر تُعد جزءًا من "المتحف المفتوح" لمدينة إسطنبول، وتُسهم في السياحة والحفاظ على النسيج التاريخي، كما تُعد "مادة بحثية غنية لرسم رؤى متعددة التخصصات حول العمارة والبيئة والرحمة".

واستعرض بلكي عددًا من الأمثلة الحية لهذه المشارب، منها حوض ماء في باحة جامع السليمانية، صُمم لتلطيف أجواء الفناء، ومئة تقريبًا من الأحواض الصغيرة أسفل شرفات جامع كوجوك مجيدية في منطقة أورطاكوي، ما زالت قائمة وتؤدي وظيفتها حتى اليوم.

كما أشار إلى وجود هذه الزخارف في قصر طوب قابي، وجامع والدة جديد في منطقة أسكودار، وقصر سيد حسن باشا، إضافة إلى المساجد التي شيّدتها السلطانات العثمانيات، مثل بزم عالم وبرتفنيال والدة السلطان، والتي زُينت ببيوت الطيور.

** استعادة الوعي الحضاري

وأشار بلكي في حديثه إلى أن أول إعلان عالمي لحقوق الحيوان ظهر في عهد السلطان محمد الثالث، وتم تطبيق بعض أحكامه في ساحة بايزيد بإسطنبول، وفقًا لسجلات تاريخية.

وقال: "علينا اليوم أن نُعيد إحياء مثل هذه اللمسات المعمارية التي تُجسد بُعدنا الحضاري العميق. الرحمة لا تُقاس بالكلمات فقط، بل بالأفعال التي تنبض بها الجدران".

وأوضح أن الرحالة الأوروبيين الذين زاروا الدولة العثمانية دُهشوا من الرعاية التي أُوليَت للحيوانات، وخصصوا لذلك صفحات في مؤلفاتهم.

** دهشة الرحالة

وتحدث بلكي عن شخصية "المانجاجي" الذين كانوا يطعمون القطط والكلاب في ساحات المساجد، مشيرًا إلى أن هذه الظاهرة أثارت دهشة الزائرين الأوروبيين.

وقال: "الرحالة الأجانب، نظرا لغياب هذا المستوى من الرحمة في مجتمعاتهم حينذاك، كانوا ينظرون بعين من الدهشة والإعجاب لهذا الواقع".

وأضاف: "كتب بعض الرحالة في نهاية ملاحظاتهم أن 'في الدولة العثمانية، من المستحيل أن تجد إنسانًا أو حتى حيوانًا جائعًا'".

وختم بالقول: "الجميع ينظر، لكن قليلون هم من يرون ما تحمله أحجار الجدران من إرث حضاري. نأمل أن تُبصر الأجيال القادمة هذا العمق، وأن تُعيد وصل الحاضر بجذور الرحمة التي صنعت حضارتنا".

الأخبار المنشورة على الصفحة الرسمية لوكالة الأناضول، هي اختصار لجزء من الأخبار التي تُعرض للمشتركين عبر نظام تدفق الأخبار (HAS). من أجل الاشتراك لدى الوكالة يُرجى الاتصال بالرابط التالي.