ماذا وراء تحدي حكومة مالي لفرنسا؟ (تحليل)
في لهجة تحدي متصاعدة ونادرة ضد فرنسا، اتهمت الحكومة المالية باريس بإنشاء جيش في مدينة كيدال (شمالي مالي) وسلمته إلى حركة تشكلت من جماعة "أنصار الدين"، المتحالفة مع تنظيم القاعدة.

Istanbul
إسطنبول/ الأناضول
- رئيس الحكومة المالية يقول إنه يملك أدلة على تورط فرنسا في تشكيل جيش من الإرهابيين شمالي بلاده- فرنسا تسعى لتدريب الطوارق لمواجهة التنظيمات الإرهابية وتخشى انهيارهم على الطريقة الأفغانية والفيتنامية
- تحدي الحكومة المالية لفرنسا رفع شعبيتها ما قد يمهد لتقبل تأجيلها للانتخابات الرئاسية والبرلمانية في فبراير المقبل
- الدعم العسكري الروسي والدبلوماسي الجزائري عززا الموقف المالي أمام التهديدات الفرنسية
في لهجة تحدي متصاعدة ونادرة ضد فرنسا، اتهمت الحكومة المالية باريس بإنشاء جيش في مدينة كيدال (شمالي مالي) وسلمته إلى حركة تشكلت من جماعة "أنصار الدين"، المتحالفة مع تنظيم القاعدة.
ليس ذلك فقط، بل إن باماكو تجرأت واستدعت السفير الفرنسي لديها، واقتربت من التوقيع على عقد مع شركة فاغنر الروسية لجلب ألف مرتزق، رغم معارضة باريس، بل واستلمت أربع مروحيات عسكرية من روسيا، ما أثار جنون المسؤولين الفرنسيين، الذين يعتبرون مالي أكثر الدول الإفريقية تبعية لنفوذهم.
فماكرون، الذي تنتظره انتخابات مصيرية الربيع المقبل، دخل مؤخرا في صدامات دبلوماسية مع عدة دول، بدءا من أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية، ثم دول مغاربية (الجزائر والمغرب وتونس)، قبل أن يتفرغ للجزائر، وأخيرا جاء دور مالي.
وهذا ما يفسر الهجوم اللاذع لماكرون ضد رئيس الحكومة المالية تشوغويل كوكالا مايغا، الذي وصفه بأنه "طفل الانقلابَين"، وأن شرعية حكومته تساوي "صفر ديمقراطياً"، و"ما قاله رئيس الوزراء المالي غير مقبول. إنه لعار. وهذا يسيء إلى ما ليس حتى حكومة".
** فرنسا تشكل جيشا من "الإرهابيين"
أدت هذه التصريحات العنيفة لماكرون، إلى تصعيد باماكو ضد باريس، إذ لم تكتف باستدعاء السفير الفرنسي لديها، بل وجه رئيس حكومتها تهما خطيرة ضد القوت الفرنسية بجلب إرهابيين من ليبيا وتدريبهم في كيدال (قرب الحدود مع الجزائر).
وتحدث مايغا، في تصريحات لوكالة "ريا نوفوستي" الروسية، عن إنشاء القوات الفرنسية جيشا في كيدال، وسلمته إلى حركة تشكلت من "أنصار الدين"، وقال إنه يملك أدلة على ذلك.
وجماعة "أنصار الدين"، تنظيم مسلح أغلب عناصره من الطوارق، ويقودهم إياد آغ غالي، زعيم "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، التي تضم عدة جماعات مسلحة تنشط في مالي، بينها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب، المصنف إرهابيا في عدة دول.
ولم يوضح مايغا، هوية "الإرهابيين" الذين جلبتهم فرنسا من ليبيا، هل هم من المرتزقة الأفارقة من تشاد والنيجر والسودان، أم من الطوارق الذين جندهم الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي (1969-2011) ثم عادوا إلى مالي لقتال الحكومة المركزيية منذ 2012.
إلا أن الادعاء بأن فرنسا سلمت هذا "الجيش" إلى حركة تشكلت من "أنصار الدين"، اتهام خطير جدا، ويعني أن باريس إما تحالفت مع تنظيم القاعدة، أو مع فرع منشق عنه في شمالي مالي، وفي كلتا الحالتين فإن الهدف هو زعزعة استقرار مالي والجزائر معا، خاصة إذا دخل مرتزقة فاغنر إلى مالي.
فقرار باريس إنهاء عملية برخان في منطقة الساحل الإفريقي، وانسحابها من مدن شمالي مالي (كيدال وتيساليت وتومبوكتو)، يعني ضمنيا تسليمها لجماعة "النصرة" بقيادة آغ غالي.
فالمجموعات المسلحة للطوارق والأزواد غير قادرة على مواجهة التنظيمات الإرهابية في المنطقة، وخسرت المواجهة ضدها في 2012، رغم أنها تحالفت معها في بداية الهجوم على شمالي البلاد.
وعلى الأغلب فإن القوات الفرنسية، التي تسيطر فعليا على شمالي مالي، تسعى لتدريب عناصر من الطوارق لمواجهة تنظيمي القاعدة وداعش في الصحراء الكبرى، ولكن قد يلعب هذا "الجيش" على انفصال إقليم أزواد (شمالي مالي) عن باماكو، أو أن ينهار على يد جماعة "أنصار الدين" إما بسبب الترابط العرقي والقبلي، أو بالقوة المسلحة.
فماكرون، ومنذ 2017، يسعى لسحب قوات بلاده من مالي، لكنه لا يريد أن يظهر هذا الانسحاب كهزيمة شخصية له قبيل أشهر من الرئاسيات الفرنسية.
ولا يريد الرئيس الفرنسي تكرار ما حدث للولايات المتحدة الأمريكية أثناء انسحاب قواتها من أفغانستان في 2021، ومن فيتنام في 1975.
لكن الجيش الفرنسي قد يعمل على تجريب خطة "فتنمة الحرب" التي لجأت إليها واشنطن في فيتنام (وفشلت)، من خلال إنشاء "جيش عميل" لفرنسا من الطوارق، وهذا ما يقلق باماكو، التي لا يسيطر جيشها على شمالي البلاد.
واعترف رئيس الوزراء المالي، أنه لا يمكن لحكومته "الوصول إلى كيدال حاليا، لأنها منطقة معزولة تسيطر عليها فرنسا، ولديها مجموعات مسلحة هناك، دربها ضباط فرنسيون".
وأحد أسباب عدم سماح فرنسا للجيش المالي بالانتشار في الشمال، اتهام حركات مسلحة في المنطقة له بارتكاب تطهير عرقي ضد العرب والطوارق في 2013، أثار استياء عدة دول ومنظمات حقوقية.
** دلالات التوتر
تصاعد التوتر الأخير بين باماكو وباريس، نابع من رفض الانقلاب الذي قاده العقيد عاصيمي غويتا للمرة الثانية منذ صائفة 2020، حتى دون التنسيق مع السلطات الفرنسية أو أخذ موافقتها.
كما أن الضباط الذين قادوا الانقلاب محسوبون على روسيا، التي تزاحم فرنسا على النفوذ في مالي، ما أغضب الفرنسيين ودفعهم لتعليق عملياتهم العسكرية مؤقتا.
قبل أن يقرر الرئيس الفرنسي إنهاء عملية برخان في منطقة الساحل في يونيو/حزيران الماضي، وتقليص عدد قوات بلاده من 5100 عسكري إلى ما بين 2500 و3 آلاف عنصر، والأسوأ من ذلك الانسحاب تماما من مدن تيساليت وكيدال وتومبوكتو.
اعتبرت باماكو هذا القرار تخلي عنها، بل إن رئيس الوزراء المالي شجب في حوار مع إذاعة فرنسا الدولية، في 27 سبتمبر/أيلول، ما اعتبره "إعلان أحادي الجانب"، ودون التنسيق الثلاثي مع الأمم المتحدة والحكومة المالية.
وقال مايغا "تأسف مالي لأن مبدأ التشاور والتناغم، الذي يجب أن يكون القاعدة بين الشركاء المتميزين، لم يُحترم عند اتخاذ هذا القرار".
وكان رد باماكو سريعا وغير متوقع، بتواصلها مع روسيا، التي زودتها بأربع طائرات مروحية من نوع مي 17، كما توشك الحكومة المالية على التوقيع على اتفاق مع شركة فاغنر الروسية على إرسال ألف مرتزق إلى مالي، مقابل أموال وامتيازات تعدينية في مناجم للذهب والمغنيزيوم.
لم تتقبل فرنسا هذا التحدي من السلطات المالية الجديدة، التي تعتبر أنها غير شرعية وجاءت عبر انقلابين، ولا تسيطر على أجزاء واسعة من البلاد، وأنه بدون قواتها والقوات الإفريقية والأوروبية المتحالفة معها فإن باماكو ستسقط تحت ضربات الجماعات الإرهابية.
باماكو من جانبها لم تنظر بعين الرضا إلى تحدث فرنسا باسم مالي في العديد من المحافل الدولية متجاهلة السلطات الجديدة، وعدم احترام سيادة بلادها.
بينما لم تستسغ باريس فتح باماكو قنوات اتصال مع جماعات مصنفة إرهابية مثل "أنصار الدين" وجماعة "تحرير ماسينا"، لإقناعها بالدخول في مسار مصالحة وطنية على الطريقة الجزائرية.
وتتهم وسائل إعلام فرنسية بينها موقع "لاكروا"، الحكومة المالية باستغلال العداء التاريخي للشعب المالي ضد فرنسا، وافتعال هذه الأزمة، لصرف النظر عن إخفاقاتها، ورفع شعبيتها، خاصة بعد إعلان مايغا تأجيل محتمل للانتخابات الرئاسية والتشريعية، المقررة في 27 فبراير/شباط 2022، بضعة أسابيع أو أشهر، رغم تعهدات المجلس العسكري للمجتمع الدولي.
وجاءت زيارة وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، إلى باماكو، لتعطي دعما معنويا أكبر للحكومة المالية، التي استدعت في نفس اليوم السفير الفرنسي للاحتجاج على تصريحات ماكرون.
وأعطى ذلك انطباع وكأن هناك تنسيق بين الجزائر ومالي للتنديد بتصريحات ماكرون ضد البلدين، خاصة وأن الجزائر سبقت باماكو في استدعاء السفير الفرنسي لديها، ما شكل إحراجا دبلوماسيا لباريس، ومساسا بهيبتها في مستعمراتها السابقة.
وتبدو الأمور متجه نحو التصعيد بين فرنسا ومالي، التي تجد في الدعم الروسي والجزائري فرصة لمواجهة النفوذ الفرنسي الطاغي.
الأخبار المنشورة على الصفحة الرسمية لوكالة الأناضول، هي اختصار لجزء من الأخبار التي تُعرض للمشتركين عبر نظام تدفق الأخبار (HAS). من أجل الاشتراك لدى الوكالة يُرجى الاتصال بالرابط التالي.