الكابوس الفرنسي في إفريقيا (القسم الثاني): الاستعمار الجديد
رغم انسحاب فرنسا من مستعمراتها في إفريقيا إلا أنها مازالت تحاول منع تلك الدول الإفريقية من الانفصال عنها، حيث يتحدث ١٠٠ مليون شخص بالقارة السمراء اللغة الفرنسية، وتضع باريس يدها على الأصول الاقتصادية الكبرى في مستعمراتها السابقة (مصطفى أفا)

Istanbul
إسطنبول/ مصطفى أفا/ الأناضول
انسحبت فرنسا من مستعمراتها في إفريقيا، لكنها لم تقم بذلك إلا بعد أن أجبرت البلدان التي كانت تحت استعمارها على إعلان اللغة الفرنسية لغة رسمية للبلاد والتعليم الرسمي.
جرى هيكلة المؤسسات التعليمية بالطريقة التي تريدها فرنسا من التعليم الابتدائي إلى الجامعي، في حين لم تكن نسبة الذين يعرفون اللغة الفرنسية في تشاد عندما مُنحت الاستقلال، إلا حوالي 2 في المئة من نسبة السكان.
** مجتمع "الفرانكوفونية"
أنشأت فرنسا "مجتمع البلدان الناطقة بالفرنسية" (الفرانكوفونية)، بغرض منع المستعمرات القديمة من الانفصال عن فرنسا، في الوقت الذي لا تزال فيه إفريقيا حتى الآن، القارة التي تضم أكبر عدد من الناطقين بالفرنسية في مجتمع البلدان الناطقة بالفرنسية.
ما يقرب من 100 مليون شخص يتحدثون الفرنسية في القارة السمراء، حيث تعد الفرنسية لغة رسمية في 27 من أصل 54 دولة إفريقية.
وتم إنشاء منظمة نشر اللغة والثقافة الفرنسية، مع العديد من المؤسسات التابعة لها، والتي تجري أنشطتها بإشراف وزارة الخارجية الفرنسية. كما يوجد في فرنسا هيئات إذاعية وصحفية تبث من أجل متابعة القضايا الإفريقية.
وتوفر هذه المؤسسات الإعلامية توجيهات لحماية المصالح الفرنسية عبر المجلات ومحطات التلفزيون والإذاعة التابعة لها، في الوقت الذي تمارس باريس فيه الضغط على مستعمراتها السابقة من أجل حماية المصالح الفرنسية وإعطاء الأولوية لشركاتها.
ولم يقتصر هذا الشأن على الشركات الفرنسية، بل وجد مواطنو المستعمرات الفرنسية السابقة أنفسهم مجبرين لسنوات، للسفر على متن طائرات الخطوط الجوية الفرنسية أو الخطوط الجوية البريطانية حصريًا، إذا ما أرادوا السفر إلى بلدان أخرى.
مع بدء شركات الطيران المختلفة تسيير رحلات جوية إلى إفريقيا، بدأ الأفارقة في استخدام طرق مختلفة واكتشفوا وجود بلدان أخرى غير فرنسا.
وكما نرى اليوم، فإن الخطوط الجوية التركية تسيير رحلات جوية إلى 53 وجهة في القارة الإفريقية. كما تتم جميع عمليات النقل من خلال إسطنبول. وهذا يمكن اعتباره أحد الأسباب التي تدفع فرنسا إلى استهداف تركيا من وقت لآخر.
إضافة إلى ما سبق، يمكننا القول إن الفرنسيين يجمعون في أيديهم أهم الأصول الاقتصادية الكبرى الموجودة في معظم المستعمرات الفرنسية السابقة، وعلى سبيل المثال، في ساحل العاج، تتحكم الشركات الفرنسية في جميع الخدمات الرئيسية مثل المياه والكهرباء والهاتف والنقل والموانئ والبنوك الكبيرة. وينطبق الشيء نفسه في التجارة والبناء والزراعة.
** "التغريب" و"التحديث" استعمار جديد
لقد تسببت تيارات "التغريب"، و"التحديث"، والتي كانت تستخدم من قبل فرنسا كأحد الأساليب الجديدة للاستعمار، في السيطرة على هذه المجتمعات.
كما أنشأت فرنسا مدارس إسلامية خاضعة لسيطرتها من أجل تشكيل فكر ديني منصاع لإرادتها وكسر إرادة المقاومة عند المسلمين في القارة الأفريقية.
وتم إنشاء قنوات موسيقى البوب التي تبث برامج فاحشة تسعى إلى تخريب قيم المجتمعات الإفريقية، وهذه القنوات تبث على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، فضلًا عن تشجيع أبناء المجتمع الإسلامي على تعاطي المشروبات الكحولية، والدفع بالنساء إلى الانقياد وراء الموضة.
نتيجة لذلك، ظهرت في المجتمعات الإفريقية عادات غريبة كتناول المشروبات الكحولية وأكل شطائر لحم الخنزير، وإقامة حفلات البوب في إطار احتفالات عيد الأضحى. والأخطر من هذا هو التعاطي مع هذا التدهور الثقافي والإفساد الذي يطال قيم الإسلام والثقافة الإفريقية على أنه وضع طبيعي.
بدوره، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى فتح صفحة جديدة في تاريخ العلاقات الفرنسية الإفريقية، قائلاً إن الاستعمار "كان خطأ فادحًا"، وذلك أثناء زيارته لساحل العاج، الذي رزح تحت وطأة الاستعمار الفرنسي لسنوات عديدة.
وأضاف الرئيس الفرنسي أن إفريقيا قارة فتيّة من حيث عدد سكانها، داعيًا جيل الشباب الإفريقي لإقامة علاقات صداقة جديدة مع بلاده.
هذه التصريحات في الواقع، تظهر وهن المحاولات الأخيرة للرئيس الفرنسي من أجل خداع الأفارقة، من خلال استخدام الأدوات الأخيرة لنموذج الاستعمار الجديد.
ولن تدفع هذه الدعوات الواهية مثل الدعوة إلى "فتح صفحة جديدة" والقبول بالخطأ، الأفارقة إلى نسيان الماضي المرير، ما لم ترفع فرنسا يدها عن القارة السمراء وتكف عن استغلال مواردها. ذلك لأن سكان القارة لن ينسوا الملايين الذين استعبدتهم فرنسا، والموارد الجوفية المنهوبة والتحف التاريخية التي تزين متاحف باريس.
إضافة إلى ما سبق، فإن هناك نية أخرى وراء دعوة ماكرون لجيل الشباب الإفريقي لإقامة "علاقة صداقة" جديدة مع بلاده تتمثل في استغلال شباب القارة الإفريقية. حيث أطلقت فرنسا برنامجًا لتعزيز حصتها العسكرية مع الشباب الكاميروني، ما أثار ردود فعل شعبية غاضبة في الكاميرون ضد هذا البرنامج.
ووفقًا للبرنامج المذكور، سيتمكن الشباب الكاميروني من الذكور والإناث، من الانخراط في البرنامج بشرط أن يكون المتقدمون ممن يتقنون اللغة الفرنسية، وهذا ما رفضه الشارع الكاميروني لما يحمل من اسغلال لشباب إفريقيا من أجل خدمة مصالح فرنسا.
** الفرنك الإفريقي تركة استعمارية
تواصل بلدان القارة السوداء التعامل بعملة "الفرنك" الإفريقي، الذي يتم طباعته وتحديد قوته الشرائية من قبل باريس، رغم أنه لم يعد موجودًا في فرنسا نفسها.
وتهدف فرنسا من خلال استمرار التداول بالفرنك الإفريقي، إلى إبقاء سيطرتها الاقتصادية على القارة السمراء.
ويجري تداول الفرنك الإفريقي في 12 دولة كانت سابقا مستعمرات فرنسية، بالإضافة إلى غينيا بيساو (مستعمرة برتغالية سابقة) وغينيا الاستوائية (مستعمرة إسبانية سابقة)، وينقسم الفرنك المتداول إلى نوعين، فرنك وسط إفريقيا وفرنك غرب إفريقيا.
ورغم كون الفرنك المتداول في وسط إفريقيا يساوي بقيمته الفرنك المتداول في غرب القارة، إلا أنه لا يمكن استعمال عملة دول الوسط في دول الغرب وبالعكس.
وفقًا لشروط الاتفاقية المنعقدة للجمعية المالية الإفريقية (CFA)، يلتزم البنك المركزي لكل دولة إفريقية بالاحتفاظ بنسبة 85 في المئة على الأقل من احتياطياتها من العملات الأجنبية في "حساب تجاري" في البنك المركزي الفرنسي التابع لبنك الرقابة المالية الفرنسي.
إلا أن الدول الإفريقية لا تملك حق الوصول إلى هذه الأموال. ذلك أن فرنسا تسمح لهم بالوصول إلى 15 في المئة فقط من الأموال في السنة. وإذا كانوا بحاجة إلى المزيد، فعليهم اقتراض أموال إضافية من الخزانة الفرنسية.
حقيقة أن فرنسا تضع حداً للمبلغ الذي يمكن أن تقترضه الدول من الاحتياطي تجعل الأمور مأساوية للغاية. ذلك أن النسبة التي تضعها فرنسا على الاقتراض تصل نسبتها إلى 20 في المئة من الإيرادات العامة، وإذا طلبت البلدان أكثر من 20 في المئة من أموالها الخاصة، فإن لفرنسا حق النقض.
وتحتفظ فرنسا بالاحتياطات الوطنية لـ 14 دولة إفريقية منذ عام 1961: وهي بنين، وبوركينا فاسو، وغينيا بيساو، وساحل العاج، ومالي، والنيجر، والسنغال، وتوغو، والكاميرون، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وتشاد، والكونغو برازافيل، وغينيا الاستوائية، وغابون.
ويتعين على الدول الإفريقية أيضًا إيداع احتياطياتها المالية الوطنية في البنك المركزي الفرنسي.
وتربح الخزانة الفرنسية حوالي 500 مليار دولار من الأرباح والعوائد السنوية من إفريقيا، لذلك تعمد باريس على السيطرة على النظام النقدي الذي هو تركة الاستعمار.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الزعماء الأفارقة الذين عارضوا هذا النظام، إما تعرضوا للقتل أو تعرضوا لانقلاب عسكري أطاح بحكمهم. أما الذين رضخوا فيكافئون بسخاء من فرنسا.