"بنقردان" التونسية.. لقمة عيش "مغموسة" برصاص "التهريب"
يخاطرون بحياتهم لكسب قوت يومهم عبر إدخال المحروقات بطريقة غير شرعية من الجانب الآخر مقابل توريد السلع التموينية المختلفة

Tunisia
بنقردان (تونس)/ هيثم المحضي/ الأناضول
"أعيش من التهريب وابني سيعيش منه أيضاً".. بهذه العبارة لخص أحد المهربين التونسيين حاله وآخرين في مدينة بنقردان القريبة من الحدود الشرقية مع ليبيا، حيث يخاطرون بحياتهم لكسب قوت يومهم عبر إدخال المحروقات بطريقة غير شرعية من الجانب الآخر مقابل توريد السلع التموينية المختلفة، غير عابئين بما ينتظرهم من مصير قد يقضي بحياتهم برصاص الأمن الذي يخشى من تلل عناصر "إرهابية" من تلك المنطقة.
"ميلود اللافي" (40 عاماً) التقته الأناضول على الطريق المؤدي إلى معبر رأس جدير الحدودي بين تونس وليبيا، حيث يعمل في محل لبيع البنزين منذ سنوات عديدة، يقول: "أعرف عدداً كبيراً من تجار البنزين، ومعظمهم من أصحاب الشهادات العليا المعطلين عن العمل، وهم يشتغلون في هذه التجارة الخطرة (التهريب) بسبب غياب فرص عمل دائمة".
وأضاف ميلود "سياسة الدولة التنموية خاطئة، نحن أبناء الجنوب نشعر بأن حياتنا قاسية، وكل الثروات في البلاد تؤخذ من عندنا، والمشاريع التنموية موجودة في الشمال، ما أجبر أبناء بنقردان إلى الاقتيات من الحدود وتعريض حياتهم للخطر"، في إشارة منه إلى عمليات تهريب البنزين التي يقوم بها شباب تونسيون عبر الحدود مع ليبيا.
ويؤكد "ميلود" أنهم مجبرون على العمل عند الحدود "رغم موت عدد كبير من أبنائهم"، مستطرداً "أصبحنا نفكر في إنشاء مقبرة خاصة بشباب بنقردان الذين توفوا على الحدود برصاص الجيش، وهذه ستكون وصمة عار في جبين تونس".
"مُجبرون لا مُخيرون".. هكذا يرى شبان تونسيون في "بنقردان" حالهم بعد أن تقطعت بهم السبل في توفير فرص عمل لهم فاتجهوا إلى الحصول على قوت يومهم من خلال ما أسموه "التجارة" عبر الحدود، معرضين حياتهم للخطر بسبب قوات الجيش التونسي المنتشر على كامل الشريط الحدودي مع الجارة ليبيا والذي يحاول منع تسلل عناصر إرهابية، أو مصرعهم في انقلاب سياراتهم بعد مطاردة قوات الأمن لهم.
وبحسب اتحاد "أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل" (مستقل) تقدر نسبة الشباب الذي يعمل فيما يسمونه "تجارة" الحدود في مدينة بنقردان التونسية بـ20 بالمئة.
وتطلق السلطات التونسية تسمية "مهربين" على هؤلاء الشباب، إلا أنهم يرفضون ذلك ويُحمِّلون السلطة التي لم توفر لهم مورد رزق دائم داخل المدينة، وفق تعبيرهم، المسؤولية الكاملة للمخاطر التي يتعرضون إليها على الحدود.
ويقوم عدد من الشباب في "بنقردان" بتهريب البنزين من ليبيا نظراً لأسعاره الزهيدة مقارنة بغلائها في بلادهم، مقابل توريد سلع تموينية مختلفة من تونس إلى الجارة الشرقية، خاصة في فترة الحصار الجوي الذي فرض على ليبيا في 1992 في عهد الرئيس الراحل معمر القذافي بقرار من مجلس الأمن الدولي، وهو الحظر الذي تم رفعه بقرار آخر عام 2003.
واستمرت "بنقردان" كقاعدة تموين غير رسمية لمناطق الغرب الليبي خاصة بعد الثورة التي أطاحت بنظام القذافي في 2011، وما تلاها من اضطرابات أمنية، جعلت من المدينة التونسية منطقة نشاط حيوي للمهربين على الحدود بين البلدين.
ويقتات أغلب أهالي بنقردان الذي يصل عددهم إلى 79 ألف و912 ساكن بحسب إحصائيات رسمية، من التجارة مع ليبيا بحكم تواجدها الجغرافي كآخر نقطة فاصلة بين البلدين، وتعتبر المدينة بوابة تونس نحو الشرق وإفريقيا.
وفي نهاية العام الماضي أتمت تونس حفر خندق على طول ما يقارب الـ250 كلم على كامل الحدود التونسية الليبية لحماية حدودها "من تسلل الإرهابيين وتهريب السلاح من ليبيا"، ورافق ذلك انتشار مكثف للجيش التونسي.
وتشير أرقام "اتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل" إلى أن عدد الشباب الذين لقوا حتفهم على الحدود البرية مع ليبيا منذ ظهور هذا النوع من العمل قبل سنوات يقارب الـ 30، وهي حصيلة لم يتسن للأناضول التأكد من صحتها من مصادر مستقلة.
الأناضول زارت مدينة "بنقردان" واستطلعت آراء بعض العائلات التي فقدت أبنائها على الحدود، وداخل خيمة عزاء وسط المدينة، كان اللقاء مع عائلة الشاب رضا بن عامر (31 سنة) والتي تقول إنه قتل برصاص الأمن الأسبوع الماضي.
وبنبرة فيها الكثير من الحرقة على فقدان ابنها، قالت "مسعودة جاب الله": "قتلوا ابني في منطقة سعيدان (القريبة من وسط المدينة) وليس في المنطقة العازلة كما يدّعون، أحس بظلم كبير بعد رؤية أكبادنا الذاهبة بين أيدينا".
وأضافت "مسعودة": "ابني لم يمسكوه إرهابي أو قاطع للحدود بدون ترخيص، لماذا قتلوا فلذة كبدي بهذه الطريقة؟".
وفي بيان لها مؤخراً، قالت وزارة الداخلية التونسية بأن المتوفي (رضا بن عامر) "مُفتَّش عنه (مطلوب) لفائدة الوحدة الوطنية للبحث في الجرائم الإرهابية للحرس الوطني بالعوينة، لانضمامه إلى تنظيم إرهابي، ومعروف لدى الوحدات الأمنية بانتماءاته الدينية المتطرفة".
ونفى "نصر بن عامر"، والد الفقيد أثناء حديثه مع الأناضول هذه الرواية بشكل كلّي، مشيراً إلى أن ابنه له بطاقة إطلاق سراح من بعد استكمال التحقيقات معه، قائلاً: "ابني كان القائم بي وبأمه وبإخوته، أما اليوم فنحن بلا عائل، وانتظر حق ابني من السلطة فهو ليس بطير أو ذئب أو أرنب ليموت هكذا بطلقة رصاص".
وبحسب "بن عامر" فإن "شباب بنقردان هم الذين وقفوا في وجه الإرهابيين الذين حاولوا احتلال المدينة فجر الـ7 من مارس/ آذار الماضي"، حينما حاولت مجموعة من المسلحين السيطرة على المدينة عبر الهجوم على عدة مراكز أمنية نتج عنه قتل عشرات الإرهابيين في محاولة منهم لإقامة "ولاية داعشية"، بحسب السلطات.
ودعا الأب السلطة الأمنية إلى تطبيق القانون الذي يحكم بين كل الأطراف حتى "يعيش الجميع جنبا إلى جنب".
ومباشرة بعد إنشاء منطقة عسكرية عازلة على الحدود مع ليبيا، منحت وزارة الدفاع التونسية رعاة الأغنام وأصحاب المشاريع الفلاحية على الحدود تراخيص للعبور، من بينهم "جمال بن عامر"، شقيق الفقيد.
"جمال" قال للأناضول: "أعمل بشكل قانوني والتوقف عند البوابات الرسمية للتفتيش، وكذلك أخي، ولم نتعرض لأية مشكلة في المنطقة العسكرية في السابق، ولكن أخي لقي حتفه بالرصاص خارج المنطقة العازلة على أيدي رجال دورية أمنية غير مكشوفة على الطريق".
وفي منطقة "جميلة"، غربي بنقردان، تخلت "سنية" (27 سنة) عن تربية صغيريْها لصالح أمها، بسبب عدم قدرتها على الإنفاق عليهما، بعد موت والدهما إثر انقلاب سيارته على الحدود البرية، قبل ساعتين فقط من قدوم ابنه الأصغر إلى الدنيا.
ووصفت "سنية" حادثة فقدان زوجها الذي يدعى "محمد لِسِيوَد" للأناضول، قائلة: "صادف وأن بقي زوجي 3 أيام بدون عمل (يشتغل عامل يومي) فلجأ إلى الذهاب للتجارة على الحدود وقامت قوات الأمن بمطاردته، فانقلبت السيارة التي يركبها وسقط قتيلاً".
وأضافت "نعيش اليوم في ظروف صعبة بعد أن فقدنا العائل الوحيد لنا، فزوجي عمل مضطراً على الحدود الليبية من أجل تأمين مبلغ 30 دينار تونسي (15 دولارا أمريكيا) في كل يوم، وليس مبلغ 500 دينار ( 250 دولارا) كما يتصور البعض، وأما اليوم فما عدت أستطيع تأمين مصاريف أولادي على الرغم من تكفل الدولة بمبلغ 150 دينار (75 دولارا) الذي لا يكفي حتى حاجيات الصغار".
من جانبها، قالت "خيرية لسيود"، أخت الفقيد: "ذهب أخي للعمل وظننا أنه سيعود لنا ولأبنائه، ولكن رجع في صندوق"، في إشارة إلى النعش.
ودعا "الطاهر الجليدي" (في الخمسينات من العمر)، الذي فقد 3 من أقربائه على الحدود، السلطات في تونس إلى تغيير ما أسماها "السياسة الأمنية المتبعة مع تجار البنزين".
وقال الجليدي: "في السابق كنا نتعامل مع أعوان وزارة الداخلية في بنقردان، ولا توجد حوادث كبيرة، أما اليوم، وبسبب انتشار الجيش على كامل الشريط الحدودي فنلحظ أن هنالك تغيرا في طريقة التعامل الأمني، ونحن لسنا ضد تشديد الأمن على الحدود، ولكن يجب أن يكون هناك تغيير في طريقة التعاطي الأمني".
ولم يتسن للأناضول الحصول على تعقيب من السلطات التونسية على الروايات السابقة، غير أن قوات الأمن كثيراً ما أصدرت تحذيرات للمهربين على الحدود مع ليبيا من خطورة هذه الأعمال، لاسيما أن هذه القوات تنتشر في هذا المنطقة خشية تسلل إرهابيين أو تهريب السلاح.
وفي العاشر من أغسطس/ آب الحالي، حذر بيان صادر عن وزارة الدفاع التونسية من "بروز ظاهرة جديدة وخطيرة تشكل تهديدا مباشرا لسلامة القوات، وتتمثل في إقدام المهربين على استئجار عناصر ليبية مسلحة تقوم بمرافقتهم أثناء دخولهم التراب التونسي، لتوفر لهم الحماية باستعمال السلاح ضد وحدات الجيش الوطني قصد منعها من التقدم للتصدي للمهربين وحجز سيارتهم".
وحذرت وزارة الدفاع التونسية من أن "مختلف التشكيلات العسكرية العاملة بالمنطقة العسكرية العازلة لن تتوان في تطبيق القانون بما في ذلك استعمال الذخيرة الحية ضد كل من يرفض الامتثال لتعليمات التوقف أو يقوم بعمل عدواني تجاهها".
وتشدد تونس من إجراءاتها الأمنية على الحدود مع ليبيا لمقاومة ظاهرة التهريب أو تسلل إرهابيين، عبر إنشاء منطقة عسكرية عازلة، وحفر خندق عازل بطول 250 كلم على الحدود، إضافة إلى تعزيز تواجد مختلف الأسلاك الأمنية.
وفي صيف 2013 تم إعلان الشريط الحدودي الجنوبي الرابط بين تونس والجزائر وليبيا منطقة عسكرية عازلة يمنع الدّخول إليها إلا بتراخيص من السلطات.
وتشترك تونس وليبيا بخط حدودي على طول نحو 500 كلم، ويربطها منفذان بريان فقط، هما: معبر راس جدير، ومعبر الذهيبة وازن.
الأخبار المنشورة على الصفحة الرسمية لوكالة الأناضول، هي اختصار لجزء من الأخبار التي تُعرض للمشتركين عبر نظام تدفق الأخبار (HAS). من أجل الاشتراك لدى الوكالة يُرجى الاتصال بالرابط التالي.