
London, City of
لندن/مونج زارني/ الأناضول
لا شك أن الصور المنتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لحريق المصانع الصينية في المنطقة الصناعية بضواحي مدينة "يانغون" المعروفة باسم "هلاينغ ثايا"، أثارت قلق المستثمرين الأجانب الذين يولون اهتماماً أكبر لتصاعد أعمال القتل والعنف من قبل نظام الانقلاب في ميانمار، الذي يحاول قمع التمرد الشعبي الهائل ضده.
ووصفت صحيفة "جلوبال تايمز"، الناطقة باسم الحكومة الصينية، حريق المصانع بأنه عمل "بربري"، بينما لم تتطرق ولو بشكل مقتضب إلى ذبح 18 متظاهراً سلمياً في نفس الموقع وفي اليوم ذاته.
ورغم الإنكار العلني للحريق المتعمد من قبل المتظاهرين، الذين يعيشون بجوار هذه المصانع، فإن الدعاية الصينية تكرر ببساطة الرواية المخادعة التي يطلقها المجلس العسكري في ميانمار عن الضحايا كمحرضين على العنف وتدمير الممتلكات.
كما قامت الصحيفة بتصنيف أي مواطن من ميانمار يطرح احتمالية تدمير الاستثمارات الصينية كـ"أعداء ميانمار والصين الذين يجب معاقبتهم بشدة".
أكاذيب القادة العسكريين بميانمار موثقة جيدًا، فبعد أن أحرقت قواتهم ما يقرب من 400 قرية لمسلمي الروهنغيا عام 2017 - ضمت أكثر من 38 ألف مبنى بما في ذلك المساجد ومرافق تخزين الأرز والمساكن والمتاجر - حاولت الحكومة ذات الديمقراطية الزائفة خداع المجتمع المحلي والدولي، وزعموا أن ضحايا الإبادة الجماعية "أحرقوا منازلهم" قبل أن يفروا إلى بنغلاديش.
الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة في ميانمار عبارة عن رد مباشر على الانقلاب الذي لا يحظى بشعبية عالمية.
ويشعر المتظاهرون بسخط تجاه الانقلاب على المستشارة أونغ سان سو تشي، زعيمة حزب "الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية" لأنه ينتهك بوقاحة الحقوق الديمقراطية، والإرادة لكل ناخب في ميانمار.
والأهم من ذلك، أثار الانقلاب غضب الشباب ممن هم دون سن التصويت، والذين يرفضون أن يصبحوا عبارة عن مجموعة سكانية محكومة تحت حذاء الديكتاتوريين العسكريين، بغض النظر عما إذا كانت الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية (NLD) على رأس القيادة أم لا.
وخلال أيام إضراب معينة على مستوى البلاد، جذبت الاحتجاجات ما يصل إلى 25 مليون شخص، أي ما يقرب من نصف السكان، إلى شوارع المدن والقرى والبلدات الصغيرة. حيث شوهد الآباء يباركون توجه أبنائهم وبناتهم الصغار، وهم يخرجون إلى الشوارع.
يصف صحفي فرنسي مقيم في هونغ كونغ، ومتخصص في جنوب شرق آسيا، الاحتجاجات اليومية بأنها "حرب أهلية حضرية".
ويقول صديقي، وأحد النشطاء الذين ولدوا في الجيش وانضم إلى الاحتجاجات المستمرة في أنحاء البلاد منذ مطلع فبراير/ شباط الماضي، إن الاحتجاجات قوبلت بـ"مذابح يومية" من قبل المجلس العسكري.
أيد مجلس الأمن الدولي المكون من 15 عضواً، بما في ذلك الصين وروسيا الصديقتان لميانمار، بالإجماع بيان رئيس المجلس في 10 مارس/ آذار الجاري، الذي أدان فيه "العنف ضد المحتجين السلميين، بما في ذلك الانتهاكات ضد النساء والشباب والأطفال".
وأعرب عن قلقه العميق إزاء القيود المفروضة على العاملين في المجال الطبي، والمجتمع المدني، وأعضاء النقابات العمالية، والصحفيين، والعاملين في مجال الإعلام، داعياً إلى "الإفراج الفوري عن جميع المحتجزين بشكل تعسفي".
وقبل أسبوع من إدانة مجلس الأمن بالإجماع، طالبت المفوضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان ميشيل باشليت، جيش ميانمار بـ"التوقف عن قتل المتظاهرين وسجنهم"، مع تسليط الضوء على حالات الإخفاء القسري للمتظاهرين المحتجزين والاعتقال التعسفي لأكثر من ألف و750 متظاهرا.
وبالتأكيد، فإن قتل المتظاهرين المدنيين السلميين على أيدي قوات الأمن، والإخفاء القسري للنشطاء، والإعدامات العاجلة، والقتل تحت التعذيب (لأعضاء بارزين في الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية وغيرهم) تعد جرائم ضد الإنسانية.
ووفقا لبيانات "إذاعة آسيا الحرة" الصادرة في 14 مارس الجاري، بلغ عدد القتلى من المتظاهرين أكثر من 130 شخصاً منذ بدء الاحتجاجات المناهضة للانقلاب التي انتشرت في أنحاء ميانمار قبل شهر ونصف.
ورداً على الانقلاب وما تلاه من اعتداء دموي على المتظاهرين، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن تجميد صندوق حكومي لدولة ميانمار بقيمة مليار دولار في النظام المالي الأمريكي، تبع ذلك تحرك الحكومة الأمريكية لإيقاف المعاملات المالية في الولايات المتحدة من قبل تكتل من الشركات العسكرية بقيمة إجمالية تقدر بـ 16.5 مليار دولار.
من الواضح أن المجلس العسكري لم يكترث للتأثيرات على اقتصاد ميانمار، والتأثير المالي على الجيش كأحد المؤسسات المستهدفة من العقوبات.
بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن المجلس العسكري لا يهتم بوقف البنك الدولي للقروض والمنح المقدمة للبلاد، رغم الضرر الذي ستلحقه مثل هذه الإجراءات العقابية بالحياة الاقتصادية للبلاد، والصحة العامة، والقطاع الاجتماعي المتأثرين بفيروس كورونا.
وهناك ثلاثة أسباب رئيسية لصلابة الجنرالات وعائلاتهم:
أولاً، اقتنع النظام بشكل صائب، بفضل حماية بكين لهم عن طريق حق النقض، باستحالة التدخل العسكري المصرح به من مجلس الأمن ونوع العقوبات الاقتصادية المعوقة التي تم استخدامها من قبل في العراق.
ثانياً، تدير عائلات القادة العسكريين إمبراطوريات تجارية واسعة داخل شبكات شبيهة بالمافيا من المصالح التجارية المتشابكة بالشراكة مع العديد من كبار رجال الأعمال الصينيين المحليين، الذين تزوج أبناؤهم من عائلات عسكرية كبيرة.
وقامت هذه الشبكات على مدى عدة عقود بغسيل وإيقاف الأموال غير المشروعة للقادة العسكريين في البنوك في الصين وسنغافورة، وفقاً لمصادر مطلعة على هذه الترتيبات المالية في مدينة يانغون.
ثالثاً، أكبر 5 مستثمرين في اقتصاد ميانمار الذي يسيطر عليه الجيش، هم مستثمرون آسيويون غير مقيدين بالقوانين الوطنية في الداخل أو الاعتبارات الأخلاقية لحكوماتهم.
كما تظهر بيانات البنك الدولي أن سنغافورة وهونغ كونغ (الصين)، كانا أكبر مستثمرين أجنبيين في ميانمار حسب بيانات عام 2020، حيث يمثلان على التوالي 34٪ و26٪ من الاستثمار الأجنبي المباشر، في ذلك البلد.
وحتى عندما قررت شركة كيرين "Kirin"، إحدى أكبر منتجي البيرة في اليابان، قطع العلاقات مع شريكها التجاري المرتبط بالجيش، على خلفية الضغط من حملات النشطاء الدوليين، تم تصفية شركة كيرين رغم قيام طوكيو بتبرير الإبادة الجماعية في ميانمار.
وفي تناقض حاد بين المستثمرين في سنغافورة والصين، حتى في الأيام الأولى للاحتجاجات، كان مستثمرين أجانب آخرين قلقين بشأن التأثير السلبي على اقتصاد الدولة والشركات داخل البلاد.
ففي اليوم التالي للانقلاب، نشرت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) تقارير الأعمال الآسيوية في 2 فبراير/شباط الماضي، قصة خبرية بعنوان "من المحتمل أن يدمر الانقلاب العسكري اقتصاد ميانمار".
وأشار التقرير إلى قلق مستثمرين أجانب وشركات تحليل المخاطر، حيث قال ستيفن لامار، رئيس الرابطة الأمريكية للملابس والأحذية: "كثير من أعضاء المجموعة التجارية ممن لديهم أعمال تجارية في ميانمار يعتبرون الانقلاب مقلقاً للغاية".
ووفقاً لتقرير "بي بي سي" نفسه، قالت "أنويتا باسو" من شركة "فيتش سولوشنز" للبيانات المالية، إن الانقلاب قطع نصف حجم النمو الاقتصادي المتوقع في ميانمار بنسبة 6٪ قبل الانقلاب.
بالإضافة إلى ذلك، تقول "باسو" إن "أكبر المستثمرين الذين سيتأثرون بهذا هم المستثمرون الآسيويون، وقد رأينا ردود فعل مترددة جداً من قبل الكثير من هذه البلدان".
هؤلاء المستثمرون والشركات محقون في ترددهم بشأن التعامل مع ميانمار بعد الانقلاب، لأن الوضع يحمل مؤشرات لنزاع مدني-عسكري دموي طويل الأمد.
على عكس الاحتجاجات السابقة المناهضة للجيش في المناطق الحضرية في الستينيات من القرن الماضي، فإن حركة الاحتجاج اليوم تحاذي المنظور السائد المؤيد للديمقراطية وحقوق الإنسان للشعب المتعدد الأعراق في المدن والبلدات مع مجتمعات الأقليات المنتشرة في جميع المناطق الحدودية، حيث يوجد أكثر من اثنتي عشرة منظمة عرقية مسلحة بشكل جيد تقاتل من أجل ديمقراطية فيدرالية، وتسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي والأقليات.
وسواء كانت الإبادة الجماعية للروهنغيا التي ارتكبها الجيش، أو الجرائم المستمرة ضد الإنسانية أو ضد الشعب ذو الأغلبية البوذية، فإن الشعب بأسره في ميانمار يدرك تماما شعور القتلة بإمكانية الإفلات من العقاب الذي تم فرضه عليهم من قبل الأمم المتحدة.
إنهم يعلمون أن إحساس الجنرالات بالإفلات من العقاب والحصانة نابع من القوة التي تمتلكها جارتهم، الصين، والتي تلعب دوراً أساسياً في الاضطهاد المستمر منذ عقود.
من بين جميع المستثمرين الأجانب، كانت بكين الحامي الأكثر أهمية لجيش ميانمار في مجلس الأمن، وعامل التمكين للمجلس العسكري المكروه على نطاق واسع.
هذا هو المجلس العسكري الذي ينظر إليه شعب ميانمار عمومًا على أنه "التهديد الوجودي للبلاد والنظام [الديمقراطي"، وورد هذا الوصف من قبل السفير كياو مو تون، ممثل ميانمار في الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 26 فبراير/شباط الماضي.
يعبر شعب ميانمار، سواء في الفضاء الحقيقي أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، عن غضبه العام والكبير ضد الصين لتمكينها وحمايتها لجيش ميانمار.
فبدلاً من استخدام نفوذها مع المجلس العسكري للسيطرة على أسلوب تعامل الأخير الإرهابي والقاتل مع الاحتجاجات الشعبية، فضلت الصين مشاريعها الاقتصادية على سلامة 53 مليون شخص في ميانمار.
وفي غضون ذلك، صوّرت الصين الجرائم الدولية للجيش على أنها "شأن داخلي".
وبسبب القلق بشأن التأثير الاقتصادي للاحتجاجات على مشاريعها الاستراتيجية، عقدت بكين اجتماعات "سرية" مع شركاء الأعمال العسكريين في ميانمار ومسؤولي الأمن لإجراء "ترتيبات أمنية" لحماية خطوط الأنابيب والشركات الصينية في أنحاء البلاد، حسب تسريبات لمحضر اجتماع وزارة الخارجية في ميانمار عقد يوم 23 فبراير الماضي.
في حين أن المواجهة المستمرة بين الشعب في ميانمار بشكل عام والمجلس العسكري الإجرامي لا بد أن تؤثر سلبًا على اقتصاد ميانمار، فإن الصين أيضاً تعد مسؤولة عن ذلك.
إن نهج الصين قصير النظر واللامبالي بحقوق الإنسان وسعيها وراء مصالحها وحمايتها، يزيد من تفاقم الظروف الاقتصادية والسياسية مع احتمال حدوث عواقب وخيمة على الجميع.
** الكاتب هو المنسق الميانماري لتحالف الروهنغيا الحر، ومقره بالمملكة المتحدة، ويعمل أيضا بمنصب الأمين العام لقوات تجديد جنوب شرق آسيا، وزميل بمركز توثيق الإبادة الجماعية في كمبوديا.
** الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لوكالة الأناضول.
الأخبار المنشورة على الصفحة الرسمية لوكالة الأناضول، هي اختصار لجزء من الأخبار التي تُعرض للمشتركين عبر نظام تدفق الأخبار (HAS). من أجل الاشتراك لدى الوكالة يُرجى الاتصال بالرابط التالي.