صوامع ثلاث.. شواهد على تاريخ المغرب والأندلس المشترك
تتعدد الروافد الثقافية في المغرب، لكن يبقى حضور الثقافة الأندلسية قويًا رغم حداثته مقارنة بالرافد الأمازيغي

سارة آيت خرصة
مراكش/ الرباط – الأناضول
"أقواس مزخرفة بفسيفساء أندلسية.. بيوت تعلو سقفها قراميد حمراء، وتتوسطها نافورة داخلية وبهو فسيح..ممرات ضيقة وساقية ماء تتحلق حولها النسوة والأطفال".. هكذا تحاكي أزقة الرباط (عاصمة المغرب على المحيط الأطلسي غرب البلاد) إلى حد بعيد أحياء مدينة أندلسية، فالمدينة استوطنها وعلى فترات متباعدة، المورسكيون (المسلمون) القادمون من الأندلس.
"نشعر بأن الأندلس ماتزال حاضرة في ذاكرة المدينة، في عاداتها وتقاليدها، في الموسيقى وحتى في ألقاب العائلات العريقة التي تقطنها"..
تقول زهرة (24 عامًا) من سكان أحد أحياء الرباط العتيقة، فالمدينة كانت مستقرًا لأسر قادمة من مدن أندلسية، فقد حرص الوافدون من مسلمي الأندلس أينما حلوا، أن يقيموا محيطا شبيها بذاك الذي رحلوا عنه قسرا .
أما مراكش (وسط المغرب) فتوصف بأنها مدينة أندلسية ببناء متقشف، يعكس العقيدة السياسية لدولة المرابطين التي شيدتها واتخذت منها عاصمة، فهي زاهدة في دعة الزخرفة، مع ميل للبساطة في البناء، دون التخلي عن الطابع الأمازيغي.
وقدم الأندلسيون الوافدون إلى المغرب بكل هذه الحمولة الثقافية التي أثرت الرباط ومراكش، فارين على ما تقول الرواية التاريخية من محاكم التفتيش في إسبانيا بعد سيطر القشتالين (مسيحيين) عليها.
جاءوا من غرناطة وقرطبة وطليطلة وإشبيلية أجمل حواضر الأندلس وأحسنها عمرانا، لتستعير بذلك مدن مغربية عدة ملامح أندلسية، فسرعان ما ألف المورسكيون العيش في المغرب وأثروا في ثقافته، ويحفظون حنينا دائما إلى أرض الأندلس.
أوجه الشبه بين حواضر المغرب والأندلس تتبدى في أشكال عدة، لعل أبرزها البنيان والعمران. "بجامع إشبيلية الأعظم هناك صومعة (وهي مبنى ملحق بمسجد ويطلق عليه منارة المسجد وتستخدم للتعبد والاعتكاف) "الخيرالدا"، لاتذكر إلا مقترنة بصومعة مدينتنا الشهيرة صومعة "الكتبية"، يقال إن أوجه الشبه بينهما واضحة، فكلتاهما بنيت في عهد الدولة الموحدية"..يقول "المهدي" طالب جامعي من سكان مدينة مراكش.
"صومعة حسان بالرباط أهم معلم تاريخي في المدينة، يحكى أن وفاة السلطان يعقوب المنصور الذي أمر ببنائها حالت دون اكتمال تشييد المسجد، لكن مسجد الكتبية بمراكش والمسجد الأعظم بإشبيلية يشبهانه لحد بعيد"..يروي "عمر"، دليل سياحي بالرباط.
في هذه المدن الثلاث "مراكش وإشبيلية والرباط" شيدت في ذات الحقبة الزمنية ثلاث صوامع: "الكتبية والخيرالدا وحسان"، تتجاوز التوأمة بين هذه المدن الثلاث وصوامعها التي تنتصب سامقة في سمائها، تشابها في البنيان والزخرفة الأندلسية، إلى عكس انشغال تاريخي بالحفاظ على وحدة الغرب الإسلامي، مع بداية انهيار الحكم في الأندلس.
في "مراكش وإشبيلية والرباط"، جرت جولات سياسية وثقافية في الغرب الإسلامي الذي كان يقاوم انهيار سلطانه في الأندلس، فالمرابطون بعد نهاية حكم ملوك الطوائف، نجحوا في بسط سيطرتهم على الأندلس، وبعدهم جاء الموحدون الذين حرصوا على الحفاظ على جذوة الإسلام في شبه الحزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال حاليا)، وفي عهدهم أقيمت "الشقيقات الثلاث" في مراكش وإشبيلية والرباط"، وبنيت المآذن في عهد السلطان الموحدي أبو يعقوب يوسف واستكمل بنائها حفيده يعقوب المنصور.
في مراكش بني مسجد الكتبية الذي استقى اسمه من النشاط الثقافي الذي كان يزاول بجواره، فساحته كانت مقرا للكتبة والخطاطين، يدونون رسائل العلماء والفقهاء وينسخون الكتب حيث كانت مراكش مركزا علميا مهما في الغرب الإسلامي، وبدأ الأمير الموحدي المؤمن بن علي بناء الصومعة ، ثم أتمها حفيده يعقوب المنصور.
يعقوب المنصور نفسه من سيأمر ببناء صومعة حسان بالرباط، لتحاكي الكتبية في شكل الهندسة والعمارة الأندلسية، لكن بوفاة السلطان الموحدي توقف استكمال مشروع البناء، فيما أتى زلزال ضرب الرباط في القرن السادس عشر ميلادي على المسجد ولم يتبقى منه سوى بعض الآثار، صومعة التي فقدت جزئها العلوي.
على جدران هذه الصوامع، زخارف نفشت ببراعة على النمط الأندلسي محتفظة بفرادة البناء المغربي الأمازيغي، لتعكس الانصهار الثقافي الفريد من نوعه بين الأندلس وأقرب النقط الجغرافية إليها "المغرب".
"تتعدد الروافد الثقافية في المغرب، لكن يبقى حضور الثقافة الأندلسية قويا رغم حداثته مقارنة بالرافد الأمازيغي..الصوامع الثلاث شاهدة على هذا الرابط التاريخي العميق"، وفقا لمحمد طالب، باحث في التاريخ في جامعة محمد الخامس بالرباط.
وإن كانت كل من الكتبية وحسان احتفضتا بأصالة طابعهما الأندلسي، فصومعة "الخيرالدا" بجامع إشبيلية الأعظم، فقد طوعت حالها حال عدد من المآثر الإسلامية في الأندلس، لتتعايش مع الثقافة الجديدة التي بسطت سيطرتها على الأندلس.
صارت "الخيرالدا" برجا من كاثدرائية إشبيلية منذ القرن الحادي العشر، بعدما كان الخليفة الموحدي أبو يوسف يعقوب المنصور قد حرص على جعلها أحد الشواهد العمرانية التاريخية على قوة دولة الموحدين، وأدخل الإسبان تعديلات زخرفية على الصومعة لتستبدل قبتها بجرس وصليب.
شجن أندلسي عميق تبوح به ما تبقى من مآثر المورسكين في المغرب، فالأندلس قد تستحيل واقعا حيا عبر جولة في بعض أزقة الرباط أوتطوان والشفشاون (شمال المغرب) لتعيد للذاكرة الحضارية ثراث الأندلس وحضارتها، وهجرة أهلها وشتاتهم، وقصصا من نكبتهم.