الروائي خليفة من "قوقعة" الأسد إلى الثورة
ما يجري في سوريا هو ثورة شعبية ضد نظام عائلي مستبد وفاسد، ولا مانع أن يحكم سوريا بعد الأسد الاسلامين إن أتى بهم الشعب، هكذا تحدث الروائي السوري مصطفى خليفة للأناضول.

إيمان نصار
القاهرة - الأناضول
مخرج سينمائي، لم تتح له فرصة لتنفيذ الإخراج الذى درسه في باريس، عاش أحداث روايته لحظة بلحظة، ومن اسمها "القوقعة" تتأكد أنك أمام إنسان أُجبر على أن يكون روائياً، وعلى عكس كل المجبَرين ، فإن خليفة تفوق ليس على ذاك الفنان القابع في وجدانه، وإنما على آخرين اقتربوا من الكتابة عن تجارب السجن، وجاءت رواية السجين مصطفى خليفة بلغته العارية المكشوفة مثل كارثه انسانية .
يحمل مصطفى خليفة كل تفاصيل وطنه بين طيات قلبه، بتجاربه وخبراته وذائقته الفنية الصافية يصول ويجول كـ"فارس" طل من رواية قديمة، ربما بطل إحدى الملاحم الكبرى،هكذا وجدته من تلك السطور التالية، التي بعث لي بها عبر البريد الالكتروني الذي جاء مخففاً من عبء السفر الذي حالت اجراءاته بين لقائنا، فحاولت قدر طاقتي ان أتماهى من خلال ما سطره من اجابات على أسئلتي، ومن خلال ما استطعت أن ألمسه من روايته، أن أتماهى مع همه وأمله عبر هذه السطور.
وقبل سطوره، أعود إلى حيث كان، إلى حيث ذاق عذابات السجان، إلى سجن تدمر، شرق العاصمة دمشق، ذلك السجن الصحراوي الذي آوى ذلك الروائي المسيحي، وآوى آهاته وآلامه، ومشاهداته للإجرام التعسفي لنظام أبى أن يصنع من الموت ماءاً يسقيه لخليفة الذي اعتقل لسبب يجهله، خطف من حياته ثلاثة عشر عاماً.
لكي يأكل خليفة ورفاقه في ذلك السجن، ولكي يشربوا، ويذهبوا لقضاء حاجتهم، عليهم أن يوقعوا على وثيقة الضرب والتعذيب التعسفي، ولكي يتنفس هواءاً نقياً بعيداً عن هواء غُمسّ بأمراض استشرت بين الرفاق داخل السجن، عليه أن يمضي على شيك يصرف من بنك السجان، بقيمة عشرات بل مئات من الجلدات والضربات والشتائم.
شربوا من بالوعة طفحت مياهها المتسخة أرضاً، فابتلعوا قاذوراتها، فأصيبوا بأمراض مزمنة، وبفرمانات مجانية، لسجانٍ هاوٍ، تخرج من كلية للفنون التعذيبية، ومحاكمات لا تتعدى الدقائق والثواني، علقوا شبحاً حتى الموت، ومن لم يمت، فهناك طبيب للموت، يستدعيه ذلك الفنان، ليقضي عليه.
سألت مصطفى خليفة، بداية عن "قوقعته"، وما تمثله له، هل هي رمز لزنزانة /مصطفى خليفة/ التي قبع بها ثلاثة عشر عاماً في ثمانيات القرن العشرين، وهو عائد إلى وطنه سوريا بعد غربة طالت سنواتها في العاصمة الفرنسية باريس؟، أم هي زنزانة سوريا، وطنه الذي أبى أن يكبله بالحديد يوم قرر أن يترك عاصمة الحب والجمال "باريس" ويعود لأحضان معشوقته "سوريا".
هي مسألة رمزية، وحالة نفسية خلقها نظام الاستبداد في سوريا، والذي هو نظام فريد في العالم، هكذا يجيبني خليفة، ويمضي شارحاً، أن ذلك النظام السوري الاستبدادي كما يحب أن يسميه، هو فريد من نوعه بدرجة وحشيته وهمجيته.
هذا التوصيف للروائي السوري قد يبدو مفهوماً الآن بعد كل ما يجري على أرض سوريا، فهو يقول:" قد يبدو هذا الكلام مفهوماً الآن بعد كل ما جرى. ولكن قبل سنتين كان هذا الكلام يبدو مستهجناً" وقد عمل هذا النظام على مبدأ الفرقة، فلكل سوري قوقعته الخاصة التي تبعده أو تعزله عن الآخرين، لأن اجتماع الناس يشكل خطراً على الاستبداد، لذلك عمل هذا النظام على أن يكون لكل مكون من مكونات الشعب " العرقية، الدينية، المذهبية" قوقعته الخاصة أيضاً، كل هذا وصولاً إلى القوقعة الكبرى التي وضع فيها سوريا أرضاً وشعباً، وأسماها: سوريا الأسد.
إلى أي مدى يمكن أن تمثل رواية "القوقعة" واقع السجين السياسي في سوريا...سؤال طرحته، وقبل أن أسطّر كل ما أجابني به، أوقفتني تلك الجملة التي أردت تدوينها في رأس إجابته، تلك التي تشرح وضع السجين السياسي في سوريا، وكيف يمكن لك أن تكون معارضاً في سوريا آنذاك، وما هو مصيرك.
"عندما نقول سجن سياسي، بقول خليفة: يتبادر للإنسان أن هناك نظاماً يحاول منع معارضيه من التأثير في الناس أو المجتمع فيلجأ إلى وضعهم في السجون، إذا فعل ذلك وفقاً للقانون فهو أمر يمكن فهمه، وإذا فعل تعسفاً يكون نظاماً مستبداً وديكتاتورياً...إلخ، وهو في كل الحالات محاولة من النظام السياسي لإبعاد معارضيه عن دائرة الفعل.
والعزل أو السجن السياسي كما يرى، "قد يتواجد في كافة بقاع الأرض، وقد يرافقها بعض الخشونة والتعدي على حق أو أكثر من حقوق الإنسان الأساسية، لكن ما جرى في سوريا مختلف تماماً، وفقاً لشرحه، فالعقلية التي كانت تدير العملية مختلفة، كما يقول، "فما كان يجري في سوريا هو ليس عزلاً أو سجناً، إنما كانت عملية إلغاء كلية للكائن الانساني " تحطيم. .قتل.." وكل هذا بدافع الحقد والانتقام، وهو بالضبط شخصنة للعمل السياسي، أي أن تعارض نظاماً سياسيا على رأسه "حافظ الأسد"، لا يجعل منك معارضاً للنظام، بل يجعل منك عدواً شخصياً للأسد ينبغي الثأر منك، بكل ما تملكه ذات مريضة ونرجسية من حقد وكراهية.
لذلك فإن رواية القوقعة تعكس وبدرجة عالية جداً من الصدق والدقة، ما كان يجري في السجون السورية، كما قال مصطفى خليفة، وقد يكون هناك حالات كثيرة من السجن السياسي لم تتعرض إلى هذا الكم من المعاناة والألم، لكن في المقابل قد يكون هناك حالات أشد قسوة ووحشية "لم أستطع تدوينها، لأنه ببساطة لم أتعرض لها، أو حتى لم أرها".
ماذا عن علاقة الرواية والأدب بشكل عام بالواقع، هل عليها تصوير الواقع ونقله إلى فضاء الأدب، أم تخيل واقع افتراضي، هكذا جاء سؤالي الثالث للروائي السوري مصطفى خليفة.
"بالعام لست ميالاً إلى فرض قوالب أو معايير محددة على أي عمل إبداعي مهما كان نوعه أو جنسه" هكذا رد على السؤال، مفسراً حسب رأيه أن "الحرية أساس الإبداع، والأمر الرئيس في كل هذا هو العلاقة بين المبدع والمتلقي، أو الأصح بين نتاج هذا المبدع وبين المتلقي، فحتى لو كان العمل تسجيلياً أو تصويرياً فوتوغرافياً للواقع، أو من جهة أخرى كان محلقاً في الخيال، والمعيار الوحيد هنا هو قدرته على ايصال ما يريد قوله، وتفاعل المتلقي معه، وكيفية هذا التفاعل".
كاتب "القوقعة" مزج في أسلوب كتابته بين اللمسة الأدبية والنفسية، فلماذا يا ترى سلك هذا الاتجاه في الكتابة؟ هل لحاجة أدبية أم لضرورة ما؟
بكل صراحة شديدة كما سطّر، يجيبني الكاتب" بصراحة شديدة أود القول، إن الموضوع قد فرض نفسه بقوة حتى على مسألة اللغة التي آثرت أن تكون بسيطة، وفي أماكن كثيرة كانت بالعامية الشامية، رأيت أن بساطة اللغة تخدم الموضوع أكثر مما لو كانت عربية بليغة أو مقعرة".
لكنه عاتبني أنا على ما قال أنه تقصير من طرفي وخاصة فيما أسميته في سؤالي "اللمسة النفسية"، لماذا يا ترى!! مصطفى خليفة يرى بأنه كان من الممكن مني، إيلاء الغوص في ذات شخوص النص جهداً أكبر، أو حيزاً أوسع، لكن الخشية من وقوع النص في فخ الرواية الذهنية وهو الأمر الذي قد يضعفه كثيرا حال دون ذلك، كما فسّر!!
أحاول مجدداً أعود بالكاتب إلى الثورة التي تعيشها سوريا، وأن أربط بينها وبين "قوقعته" فأسأله هل الثورة المعاشة حالياً هي تمرد على القوقعة التي يمثلها النظام الأسدي؟
بشكل أو بآخر يعتقد الكاتب أن الأمر كذلك، فهو يستذكر أنه سبق للكاتب اللبناني المبدع "الياس خوري" أن نشر مقالاً بعنوان: نظام القوقعة في سوريا، وقد يكون في هذا العنوان إجابة كاملة على هذا السؤال.
عدت أنا إلى مقال الياس خوري الذي كان قد نشر في الثلاثين من يناير العام الجاري، فـ"خوري" عندما كتب مقاله عن الثورة السورية، بدأ المقال بالإشارة إلى كتاب مصطفى خليفة 'القوقعة' وكتب يقول:" اليوم وأمام سيل الدم السوري المتدفق، تأخذنا الى الواقع الخفي الذي هيمن على الحياة السورية طوال اربعة عقود وقاد في النهاية الى هذا الانفجار الثوري الكبير الذي يجتاح البلاد من اقصاها الى اقصاها. الناس يصرخون بالحرية، بينما يقوم الاستبداد بتحويل كل مدن سورية ودساكرها الى ملعب للموت، حيث ينفلت عنان قطعان القتلة والشبيحة من أي قيد، ويصير الجسد الانساني ملعبا للعذاب والقهر.
رواية خليفة كما وصفها الياس خوري هو "شهادة عن عبثية القمع وجنونه و وحشيته. 'القوقعة' ليست رواية، انها مذكرات سجين سياسي اعتقل لسبب يجهله وقضى في المعتقل ثلاثة عشر عاماً وثلاثة اشهر وثلاثة عشر يوماً، واكتشف قوقعته التي فرضها عليه وحش القمع.
"أنا مواطن سوري قبل أكون روائياً، ومن موقعي كمواطن، وكإنسان قبل ذلك أساهم في الثورة السورية، وكما يقال ببساطة واختصار: حيث استطيع أن أكون مفيداً، وأخدم أهداف الثورة حسب الموقع والإمكانات المتاحة" بهذا الكلمات أجابني على سؤال حول كيفية مساهمته في الثورة السورية.
حينما تم اعتقالك، لم تعتقل بسبب أفكارك السياسية، وإنما بسبب تقرير كتبه أحد الزملاء في فرنسا،، هل أنت على بذلك الشخص، وإن كنت تعرفه، هل قابلته، وإن قابلته ماذا كنت تود القول له؟ يجيبني:" بعيداً عن الأمر الشخصي في هذا الموضوع، فإن هذا السؤال يضع يده على مشكلة كبيرة ستواجه أي سلطة تنشأ في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، فهذا النظام والذي كان الفساد والإفساد أحد أركانه، استطاع إفساد قسم كبير من الشعب السوري، وأقصد هؤلاء الناس الذين كانوا مخبرين وعملاء لدى أجهزته الأمنية، هؤلاء شئنا أم أبينا هم من أبناء الشعب السوري، وهم ضحايا هذا النظام، فإذا أردنا بناء الدول المدنية الديمقراطية لكل السوريين- بمن فيهم هؤلاء المخبرين أو حتى الذين دعموا النظام بكل السبل- فإن مشكلة داعمي النظام يجب أن تحل بأعلى قدر من روح المسؤولية، وبعيداً عن كل خطاب غرائزي هدفه الثأر أو الانتقام".
ماذا يحصل في سوريا، هل هو نتاج طبيعي لسنوات القمع والذل التي كانت سائدة في الماضي، أم أنها مؤامرة بصناعة خارجية كما يقول النظام؟ و في ظل المعطيات الحالية، من يحكم سوريا؟ وإلى اين ذاهبة سوريا؟ سألت الروائي مصطفى خليفة، وأجابني كالتالي:" ما يجري في سوريا الآن هو ثورة. ثورة كبيرة يمكن مقارنتها بالثورات العظيمة التي قامت بها البشرية عبر التاريخ المكتوب، وقد تكون أعظم ثورة قام بها العرب عبر تاريخهم الممتد لأكثر من خمسة عشرة قرناً، وأسباب هذه الثورة كثيرة ومعقدة ومتشعبة، ولكن هي قطعاً ليست مؤامرة خارجية كما يحاول النظام تصويرها، هي ثورة شعبية ضد نظام عائلي "مافياوي" مستبد وفاسد، وسوريا الآن محكومة بمجموعة طغم: طغمة عائلية " الأسد، مخلوف، شاليش"، طغمة أمنية/عسكرية، وطغمة مالية/ اقتصادية فاسدة، كل هذه الطغم تتساند ضمن مصلحة مشتركة تتمثل في بقاء الحال على ما كان عليه قبل الثورة".
أما إلى أين ذاهبة سورية؟ فلا أحد يستطيع التنبؤ، كما يقول "خليفة" لكنه يأمل أن تكون ذاهبة إلى الخلاص والحرية.
منذ أن بدأت الثورة السورية، وبدأت تشتد، ردد البعض مصطلح "أفغنة سوريا"، أردت أن أطرح ذلك على ضيف حواري، الذي جاء رده جازماً "لا...لا أعتقد أن سوريا قد تأفغنت، ولا أعتقد أن سوريا يمكن أن تتأفغن، وكإنسان سوري علماني لا يتمنى أن تُحكم سوريا يوماً من قبل الاسلاميين حتى المعتدلين منهم، أقول: إنني لا أخشى على سوريا من الإسلام السياسي أو السلفي أو الجهادي، كما يحاول الإعلام الغربي أن يصور، وإن كنت أتمنى أن لا تُحكم سوريا من قبل الإسلاميين فإنني أيضا أقول: ليس عندي اعتراض على أن يحكم الإسلاميون سوريا، هم سوريون ومن حقهم إن حازوا الأغلبية في اللعبة الديمقراطية أن يحكموا، فالنتائج هي التي ستقرر، وبكل الأحوال سوريا بعيدة جداً عن الأفغنة".
الأخبار المنشورة على الصفحة الرسمية لوكالة الأناضول، هي اختصار لجزء من الأخبار التي تُعرض للمشتركين عبر نظام تدفق الأخبار (HAS). من أجل الاشتراك لدى الوكالة يُرجى الاتصال بالرابط التالي.