
Istanbul
غزة/ الأناضول
ـ إثر قصف نفذته طائرة مسيرة استهدف شقة عائلته بمدينة غزة فجر السبت ما أدى إلى مقتل ابن شقيقته أيضا وإصابة آخرينـ دخلت والدته السجن حاملا به في شهرها الثاني دون أن تعلم بذلك إلا داخل الزنزانة وولدته مكبلة اليدين
ـ آخر كلمات وداع أمه: الله يرضى عليك يما.. الله يرحمك يا شهيد.. عريس الجنة يا روحي
ـ ابن عم يوسف: كان طموحًا يُحب العلم والرياضة ومحبوبًا من الجميع ويضحك دائما.. وفجأة استشهد
لم يكن مقتل الفتى الفلسطيني يوسف الزق (17 عاما) على يد الجيش الإسرائيلي مجرد رقم جديد يضاف إلى قوائم الضحايا المتزايدة بقطاع غزة، بل كان خاتمة مؤلمة لحكاية استثنائية بدأت منذ لحظة ولادته خلف قضبان السجن.
ففي 2008، أنجبته والدته فاطمة الزق، وهي مكبلة اليدين داخل أحد السجون الإسرائيلية، بعدما اعتقلت وهي حامل به في شهرها الثاني خلال مغادرتها القطاع لتلقي العلاج.
لم تحظ فاطمة، برعاية صحية، ولم يشاركها زوجها ولا أبناؤها الثمانية فرحة الحمل؛ فقد اكتشفت أنها حامل داخل الزنزانة، ووضعت طفلها هناك، في ظروف قاسية تفتقر لأبسط مقومات الحياة.
نجا يوسف، من ظلمة الزنزانة، لكنه لم ينج من نيران الحرب، ففي ساعات فجر السبت، قتل بقصف جوي إسرائيلي استهدف شقة عائلته في مدينة خان يونس جنوبي القطاع، ليطوى آخر فصل من حياته التي كتبت أولى سطورها داخل سجن، وختمت تحت ركام منزل مدمر وطفولة مهدورة.
في ممر مستشفى الشفاء بمدينة غزة، كانت والدته فاطمة، الأسيرة المحررة، تجلس على الأرض تحتضن جثمانه كما لم تفعل من قبل، فهذه المرة لم يكن نائما كعادته، بل مسجى بلا حراك، تغطي وجهه الدماء، ويداه المرتخيتان تلامسان الأرض.
وضعت الأم المكلومة جبينها على جبينه، تقبله وتهمس له كما كانت تفعل قبل 17 عاما في زنزانتها، حين كانت ترضعه وهي مقيدة بالسلاسل، ثم تهمس: "الله يرضى عليك يما.. الله يرحمك يا شهيد.. عريس الجنة يا روحي".
وهي تغالب دموعها ووجعها، تمتمت: "حسبنا الله ونعم الوكيل، حرقوا قلبي على ابني وحفيدي، اللهم انتقم منهم".
وفي 20 من مايو/أيار 2007 اعتقلت إسرائيل فاطمة الزق (56 عاما) أثناء خروجها من قطاع غزة للعلاج، وهي حامل بطفلها يوسف، قبل أن تضعه داخل السجن.
وعاشت ظروفا قاسية مع طفلها يوسف داخل السجن، حيث قضت نحو عامين تربيه بين القضبان، في زنزانة ضيقة تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة.
**اللحظات المروعة
وروى ابن عم يوسف، لمراسل الأناضول، تفاصيل تلك اللحظات المروعة، قائلاً: "عند ساعات الفجر سمعنا انفجارًا عنيفًا في العمارة التي نزحنا إليها، فهربنا بسرعة من الطوابق العليا وسط اللهب والدخان".
وأضاف: "توجهت نحو الشقة التي استهدفها القصف، فصُدمت حين رأيت يوسف ملقى على الأرض، أصغر أسير وُلِد داخل السجن، وقد مزقت الصواريخ جزءًا من رأسه وجسده".
وأشار إلى أن الغارة أسفرت أيضًا عن مقتل الطفل تميم أبو العطا، ابن شقيقة يوسف، إلى جانب إصابة 7 من أفراد العائلة بجراح متفاوتة، بينهم أطفال.
وقال بحسرة إن كل العائلة كانت نائمة وقت الاستهداف، قبل أن يتساءل بألم: "أين العالم مما يحدث؟ أين من يزعمون الدفاع عن حقوق الأطفال؟ ثم أضاف بصوت متهدج أنهم فقدوا كل شيء: الحياة، والطفولة، وحتى أبسط معاني الأمان".
وأضاف: "يوسف كان طموحًا، يحب العلم والرياضة، وكان محبوبًا من الجميع، كان يضحك دائما، وفجأة استشهد".
ولم تكن ليوسف صورة توثق لحظة ولادته أو طفولته الأولى داخل السجن، إذ لم يسمح لوالدته الأسيرة حينها بالتقاط أي صورة له طوال فترة اعتقالها، وفق إفادة لـ"مكتب إعلام الأسرى" الفلسطيني.
وخرج الطفل من خلف القضبان مجهول الملامح، لا يعرف عن العالم سوى جدران الزنزانة، حتى جاء يوم الحرية، يومها، بدأ يكتشف أن للعب مساحة، حسب "إعلام الأسرى".
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2009 تحررت فاطمة الزق، مع طفلها من سجون إسرائيل، ضمن صفقة أفرج خلالها عن 19 أسيرة فلسطينية، مقابل تسليم حركة حماس شريط فيديو يظهر الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط، الذي أطلق سراحه في صفقة "وفاء الأحرار" عام 2011، مقابل الإفراج عن نحو ألف أسير فلسطيني.
وفي 8 يوليو/تموز الجاري، قتلت إسرائيل 6 أسرى محررين في غارتين على خيام نزوح جنوبي ووسط القطاع، غالبيتهم من المبعدين إلى قطاع غزة.
وأفادت معطيات فلسطينية، بارتفاع عدد الأسرى في السجون الإسرائيلية إلى 10 آلاف و800 حتى مطلع يوليو الجاري، باستثناء المحتجزين في المعسكرات التابعة للجيش الإسرائيلي من غزة.
وهذا الرقم هو الأعلى منذ انتفاضة الأقصى عام 2000، وفق بيانات رسمية فلسطينية.
ومنذ بدء المعارك البرية في قطاع غزة في 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، اعتقل الجيش الإسرائيلي آلاف الفلسطينيين، بينهم أطفال ونساء وطواقم من الصحة والدفاع المدني، أفرج لاحقا عن عدد ضئيل منهم، فيما بدت عليهم علامات التعذيب والتجويع.
وسبق أن نشرت مؤسسات حقوقية في إسرائيل عدة تقارير، بشأن التعذيب والتجويع والإهمال الطبي الذي يتعرض له الأسرى الفلسطينيون في سجون تل أبيب، بعكس المحتجزين الإسرائيليين الذين أطلقت سراحهم حماس من قطاع غزة، والذين بدوا بصحة جيدة، بينما أشاد بعضهم بمعاملة آسريهم.
ومنذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 تشن إسرائيل حرب إبادة جماعية بغزة، تشمل القتل والتجويع والتدمير والتهجير القسري، متجاهلة النداءات الدولية كافة وأوامر لمحكمة العدل الدولية بوقفها.
وخلفت الإبادة، بدعم أمريكي، أكثر من 195 ألف فلسطيني بين قتيل وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين بينهم عشرات الأطفال.