archive, الدول العربية

طرابلس الشام.. ساحة معارك أهلية وعربية "مفتوحة على العبث" (تحليل)

حرص النظام السوري منذ سيطرته على لبنان في سبعينيات القرن الماضي على بسط نفوذه في طرابلس، العاصمة الثانية ومركز الشمال اللبناني، واختارت قيادة المخابرات السورية في الشمال مقراً لها في منطقة جبل محسن ذات الأغلبية العلوية.

29.05.2013 - محدث : 29.05.2013
طرابلس الشام.. ساحة معارك أهلية وعربية "مفتوحة على العبث" (تحليل)

طرابلس (لبنان)- الأناضول / نزية الأحدب - حرص النظام السوري منذ سيطرته على لبنان في سبعينيات القرن الماضي على بسط نفوذه في طرابلس، العاصمة الثانية ومركز الشمال اللبناني، واختارت قيادة المخابرات السورية في الشمال مقراً لها في منطقة جبل محسن ذات الأغلبية العلوية، في مؤشر لحجم الثقة بهذه المنطقة.

وجبل محسن هو تلة مرتفعة تطل على منطقة باب التبانة ذات الأغلبية السنية شمالي المدينة، يقطنه العلويون الذين يشكلون نحو 7% من سكان طرابلس بحسب تقديرات إعلامية، علماً أن أي إحصاء سكاني رسمي لم تجره الحكومات اللبنانية المتعاقبة.

ويواجه العلويون (الذين تنحدر منهم عائلة الأسد الحاكمة في سوريا) ضمن المذاهب الإسلامية العديد من الإتهامات، فيصفهم بعض الشيعة بالغلو، فيما يصفهم علماء السنة بأنهم ينتسبون إلى فرقة باطنية تكتم عقائدها الحقيقية. أما العلويون أنفسهم فيعتبرون أن العلوية امتداد للمذهب الإسلامي الشيعي.

يتجمع معظم العلويين في سلسلة الجبال الممتدة من عكار في شمال لبنان جنوباً إلى جبال طوروس التركية شمالاً، ومع وصولهم إلى سدة الحكم في سوريا عام 1971عبر وزير الدفاع حافظ الأسد، بدأت مرحلة جديدة في تاريخ سوريا والمنطقة، حملت وما تزال العديد من الصراعات والإشكالات الداخلية والخارجية بأبعاد مختلفة.

"طرابلس الشام" بحسب تسميتها التاريخية، كان لها نصيب وافر من ذلك الصراع الذي اتخذ طابعاً عسكرياً مع تأسيس "المقاومة الشعبية" في باب التبانة بقيادة خليل عكاوي (أبو عربي) اليساري السابق المقرب من فصائل المقاومة الفلسطينية، وسرعان ما ارتسمت محاور قتالية بين منطقة باب التبانة ذات الأغلبية السنية ومنطقة جبل محسن ذات الأغلبية العلوية بقيادة علي يوسف عيد.

وارتفع منسوب التوتر بين المنطقتين مع وقوع مجزرة مدينة حماه الشهيرة (1982) التي قادها العقيد رفعت الأسد شقيق الرئيس حافظ الأسد، خصوصاً وأن قائد جبل محسن علي عيد يدين بالولاء الكامل والخاص لرفعت الأسد، وتيمناً به أطلق اسمه على نجله الأكبر.

مع مطلع الثمانينيات من القرن الماضي نشأت حركة التوحيد الإسلامي (سُنَّية) في طرابلس بقيادة الشيخ سعيد شعبان، الذي تربطه صلات بثورة الإمام الخميني في إيران وبالزعيم الفلسطيني ياسر عرفات.

وسرعان ما فرضت حركة التوحيد سيطرتها على المدينة لترث ميليشياتها محاور الجبهة المفتوحة مع جبل محسن، في وقت عزز الجيش السوري من القدرات القتالية للميليشيا العلوية التي حملت رسمياً اسم "الحزب العربي الديمقراطي" ونسجت تحالفات وثيقة مع كل حلفاء النظام السوري في شمالي لبنان.

في خريف العام 1983 اندلعت اشتباكات عنيفة في طرابلس ومخيم البداوي الفلسطيني المجاور، بين حركة فتح بزعامة "أبو عمار" وحركة "فتح- الانتفاضة" بقيادة "أبو موسى" الموالي لحافظ الأسد، فبعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 لجأ ياسر عرفات مع قواته إلى طرابلس بترحيب من حركة التوحيد، غير أن الجيش السوري تمكن (بواجهة فلسطينية) من طرد منظمة التحرير من موئلها الأخير في لبنان.

خرج "أبو عمار" إلى تونس من سواحل طرابلس وترك فيها مخزوناً كبيراً من الأسلحة والذخائر استعملته "التوحيد" لاحقاً في معاركها التي لم تتوقف مع "العربي الديمقراطي".

في 1985 قرر الجيش السوري النظامي اقتحام طرابلس وإنهاء "إمارة" حركة التوحيد، فشكل في خريف ذلك العام جبهة قتالية عريضة طوقت المدينة وتقدمتها ميليشيات الحزب العربي الديمقراطي والحزب السوري القومي الإجتماعي والحزب الشيوعي اللبناني، وقصف الجيش من التلال التي يسيطر عليها حول المدينة أحياء طرابلس عشوائياً بما قُدر وزنُ مجموعه بمعدّل نصف قنبلة نووية، فسقط مئات المدنيين بين قتيل وجريح ونزح عشرات الألوف، ودُمرت آلاف المباني الخاصة والعامة.

بعد معارك طاحنة دامت أسابيع، تدخل الوسيط الإيراني ونجح في إقناع الجيش السوري و"جبهة طرابلس" بوثيقة تنهي الصراع، يدخل بموجبها الجيش إلى مراكز محددة في المدينة، دون التعرض لمعارضيه، وهو ما لم يلتزم به الجيش الذي سرعان ما نفذ مئات عمليات الإعتقال والإغتيال بلغت ذروتها بقتل خليل عكاوي "أبو عربي"، فارتاح منه الحزب العربي الديمقراطي في جبل محسن الذي اتهمته أطراف في المدينة بالمشاركة لاحقاً مع الجيش السوري وبعض المتعاملين معه من أبناء المدينة بارتكاب مجزرة دامية في شوارع باب التبانة وأزقتها، في شتاء العام 1986، استمرت أكثر من 36 ساعة وأزهقت أرواح مئات المدنيين جلهم من النساء والأطفال، وينفي الحزب العربي الديمقراطي أي ضلوع له في هذه المجزرة.

في العام 1989 أنهى "اتفاق الطائف" الحرب الأهلية اللبنانية، وترشح علي عيد للإنتخابات النيابية عن المقعد العلوي المستحدَث في طرابلس وفاز بدون عناء، ليخسر لاحقاً في العام 1996. فضمن خطة من النظام السوري لاجتثاث أي نفوذ لرفعت الأسد الشقيق المتمرد للرئيس حافظ الأسد في سوريا ولبنان، تخلى النظام عن علي عيد، وسهّل نجاح المغترب اللبناني أحمد حبوس في الإنتخابات ليصبح الأخير ممثل العلويين رسمياً وليس شعبياً.

ومنذ ذلك الحين تراجعت أسهم عائلة عيد في الواقع الطرابلسي بإرادة سورية، لكن الأمور لن تبقى على هذا النحو، فبعد الزلزال الذي ضرب لبنان في 14 فبراير شباط 2005 باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، انقسم البلد بحِدة بين فريق 8 آذار المؤيد للنظام السوري وفريق 14 آذار المعارض. واتخذ العلويون في طرابلس وعكار بزعامة علي عيد خيار التأييد، وبدأوا مرحلة جديدة من استعادة الحضور السياسي بدعم أساسي من حزب الله.

في العام 2008 سبّب الهجوم العسكري الدامي لحزب الله في السابع من مايو أيار على مراكز تيار المستقبل في بيروت موجة احتقان واسعة في طرابلس تُرجِمَت باشتباكات على جبهتها التقليدية، لتشكل باكورة المعارك الجديدة القديمة بين أبناء أمراء الحرب الأهلية السابقة، فعلي عيد ولأسباب صحية غاب عن المشهد ليحل مكانه ابنه رفعت، فيما حل في الجانب الآخر قادة المحاور القتالية في باب التبانة و حارات الملّولة والمنكوبين والريفا والبقار، بغياب تنظيمات وازنة تتبنى جبهة التبانة، على الأقل في العلن.

وتجددت المعارك مراراً بين المنطقتين، لكنها اتخذت منحى تصاعدياً مع بدء الثورة السورية في 15 مارس/ آذار 2011، وبات مجرد خطاب للرئيس السوري أو إنجاز للمعارضة المسلحة على الأرض يشكل سبباً كافياً لفتح المعارك التي تبلغ مع نهاية مايو أيار 2013 جولتها السادسة عشر، حاصدةً عشرات القتلى ومئات الجرحى والمعوقين غالبيتهم مدنيون. لكن السؤال الإستنكاري الذي تطرحه مؤسسات المجتمع المدني هو: من يمول حرب الفقراء في باب التبانة؟

فقد أظهرت دراسة نشرتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا "الاسكوا" في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي حول الوضع الاجتماعي في طرابلس، أن نسبة الفقر ارتفعت الى 60%، بينما يعيش 51 % تحت خط الفقر، وتتوزع العائلات الفقيرة في التبانة وجبل محسن والسويقة والقبة وفي الأسواق القديمة، في حين بلغت نسبة البطالة 30 %، والأمية 11 %، والتسرب المدرسي 58 % بين الشباب من عمر 14 الى 19 عاما. وأشارت الدراسة إلى أن 73 % من العائلات ليس لديهم تأمين صحي، بينما ترتفع نسب الأمراض في المناطق الشعبية التي تعاني سوءاً في الخدمات الطبية وسوء تدفئة في فصل الشتاء، وخلصت الدراسة إلى أن هذه النسب المخيفة من شأنها أن تضع طرابلس على فوهة بركان اجتماعي، وأن تضاعف من حدة التوترات الأمنية فيها.

دراسة الإسكوا تأتي لتصادق على تقرير سابق للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة (UNDP) صنّف طرابلس عام 2008 كأفقر مدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، في حين اعتبر البرنامج نفسه منطقة باب التبانة بأنها الأسوأ من ناحية الأزمات الإجتماعية والبيئية والصحية على ساحل المتوسط.

في جبل محسن لا ينكر رفعت علي عيد المسؤول السياسي في الحزب العربي الديمقراطي المدد الذي يحصل عليه من حزب الله ومحور "المقاومة والممانعة"، أما في باب التبانة فهناك من يتهم جهات عربية تدعم الثورة السورية بتمويل المسلحين، وهناك من يتهم حزب الله بإذكاء المعارك وتلبية متطلباتها بطريقة غير مباشرة، وآخرون يعتبرون أن كل الاحتمالات واردة، علماً أن جولة العنف الأخيرة أفرزت وقائع جديدة قد تحوّل جبهة طرابلس من صندوق بريد إلى مربع ثابت على خارطة الأزمة في المنطقة يدخل في صفقات التسوية أو قرارات التفجير.

لقد هدد "رفعت عيد" في آخر معركة بقصف مدينة طرابلس عشوائياً، وفعل بشكل محدود، وهو تطور زاد من تعقيد الأمور بحيث وضع الحزب العربي الديمقراطي نفسه في مواجهة سكان المدينة، وشجع مجموعات مسلحة جديدة على البروز، وهذه المرة بتفهّم من بعض المرجعيات عبّر عنه المدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي أبرز قيادات تيار المستقبل في الشمال اللواء أشرف ريفي، الذي اعتبر أن ما شهدته طرابلس من أعمال قصف وقنص هو نتيجة فشل من خطّط لاقتحام مدينة القصير السورية (يقصد حزب الله)، كلام اللواء ريفي ورد بعد سلسلة اجتماعات ترأسها رئيس الحكومة المستقيل نجيب ميقاتي في منزله بطرابلس وحضرها نواب المدينة في مسعى بلا جدوى لوقف إطلاق النار، أما العلاج الرسمي بالقوة فقد نال غطاءً من رئيس الجمهورية ميشال سليمان دون ترجمة ميدانية.

إذن، معارك طرابلس ما تزال مفتوحة على العبث، الحزب العربي الديمقراطي يقول إن جبل محسن في عهدة الجيش اللبناني لكنه يستعمل المدفعية الثقيلة في قصف المدينة، وقادة المحاور يقولون إنهم لن يلقوا السلاح قبل توقيف "رفعت عيد" من قبل القضاء اللبناني، وقبل انسحاب قوات حزب الله من معارك "القصير" في سوريا، علماً أن بعضهم يؤيد "الجهاد" إلى جانب الثورة السورية.

أمام هذا المشهد ثمة من يعتقد أن اسم طرابلس سيتردد كثيراً في المرحلة المقبلة، وأن عنوان التعايش بين عائلاتها الروحية سيكون مهدداً، إذا كُتب النجاح لما يُحكى عنه من مخطط لتقسيم المنطقة إلى دويلات طائفية وعرقية، وهو مخطط يرفضه جميع اللبنانيين في العلن.

الأخبار المنشورة على الصفحة الرسمية لوكالة الأناضول، هي اختصار لجزء من الأخبار التي تُعرض للمشتركين عبر نظام تدفق الأخبار (HAS). من أجل الاشتراك لدى الوكالة يُرجى الاتصال بالرابط التالي.
المواضيع ذات الصلة
Bu haberi paylaşın