حارة اليهود الصغرى بتونس..حكاية تعايش بطعم الوطن (صور وفيديو)
على بعد مئات الأمتار من أقدم المعابد اليهودية في إفريقيا، ترجّلنا في دروب "الحارة الصغرى" الضيقة تحت أشعة شمس بدت ساطعة كعادتها.

رضا التمتام
تونس ـ الأناضول
على بعد مئات الأمتار من أقدم المعابد اليهودية في إفريقيا، ترجّلنا في دروب "الحارة الصغرى" الضيقة تحت أشعة شمس بدت ساطعة كعادتها وككل أواخر ربيع في الجنوب التونسي، فعلّها هي الشمس الزوال التي حجبت عنا ملاقاة أهل الحارة وهم يتجولون في طرقها، لقد كانت كل ّ المحلات مغلقة كحال كلّ المنازل التي صدّتنا أبوابها الزرقاء عن من فيها.
قررنا العودة من حيث دخلنا "الحارة" ووقفنا عند مدخلها نترصد مرور شخص علّه يشفي شغفنا ويدلّنا عن أحد يهود الحارة.
لم يكن شعورا عادّيا الذي غمرنا ونحن ننتظر وسط مكان "غريب "صامت لم تسبق لنا زيارته، شعور تقاسمه الترقب ونحن نطالع لوحة زرقاء معلّقة عند الباب التاريخي للحارة كتب عليها "نهج القدس".
وعلى بعد أمتار قليلة من معبد الغريبة اليهودي الضارب في القدم، وجدنا متجرا لم تغلق أبوابه، فكان لقاء خاطفا مع صاحبه مروان (شاب في ربيعه الرابع والعشرين) استفسرنا منه عن الصمت الذي غطّى أركان الحارة التي عادة ما تحتفي خلال هذه الأيام من كل سنة بقدوم اليهود من مختلف إلى حج إلى معبد الغريبة.
أرجع مروان الشاب المسلم في الحارة التي يقطنها غالبية يهودية، هذا الصمت المخيم الى العيد الاسبوعي لليهود، إنه السبت يوم عطلة تتوقف فيه الاشغال وتطفؤ الأضواء إلى ما بعد غروب الشمس " كما أنهم يركنون في بيوتهم ولا يخرجون إلا مساء".
هكذا تحدث الشاب وهو يتنقل نشطا داخل المتجر يمنة وشمالا دون توقّف كحال كل تجار جزيرة جربة المتعارف عليهم بحذقهم الكبير للتجارة التي ورثوا "أسرارها " عن يهود الجزيرة فهم يسيطرون بمحلاّت الصياغة (بيع الذهب) على أهم ركن في سوق الجزيرة، كما أن فنادقهم اللامتناهية بالمنطقة السياحية تستقطب ملايين السياح من مختلف دول العالم لاكتشاف الجزيرة الأكبر في شمال إفريقيا.
صاحبنا مروان الذي استقبلنا بفرح دخل متجره تجاذبنا معه أطراف الحديث عن علاقته بيهود الحىّ، يقول "إن العلاقات الاجتماعية معهم تطورت بشكل كبير على مرّ الايام لقد باتت تربطنا علاقات طبيعية تلاشت بموجبها الانتماءات الدينية فكل حرّ في اعتقاده ولكن ما يجمعنا الانتماء لتونس وخاصٌة لهذه الحارة التي كبرنا فيها مع أبناء العم بيريز والخالة سعيدة وغيرهم".
مراون الذي لم يخف عتابه على عدد من عائلات يهودية تقطن "الحارة الكبرى" بحومة السوق (على بعد ١٠ كم) بسبب "تكبّرها"، وصف العائلات اليهودية التي تقطن" حارته الصغري" حوالي (٢٠ عائلة) بالاجتماعية التي آثرت البقاء في الحارة على عكس عائلات اخرى سافرت إلى أروبا وإسرائيل.
وعند العودة إلي وسط الحارة تمكنّا بمساعدة شابة مسلمة من زيارة عائلة صديقتها الشابة اليهودية عزيزة حنية في بيتهم.
وفي مكان كان عاديا، أركان البيت، زينته، نقوش أبوابه التي لا تختلف عن أبواب كل بيوت التونسيين اذ يعتقدون أنها تُذهب العين والحسد، استقبلتنا عزيزة وأمها وأبوها خضير الذي يشرف على العناية بالمعبد بعد أن ورث ذلك عن أبيه بشئ من قلق سرعان ما تبدّد مع تطورات الحديث.
لا تختلف عزيزة الشابة المتخرجة منذ سنوات على سائر التونسيين هي خريجة كليّة الاقتصاد مازالت تترصّد ككل الشباب التونسي فرصتها في الحصول على شغل محترم.
تترشف الشابة العشرينية الشاي على مهل وبدت كأنها مستعدة للأسئلة التي سنطرحها وكان من البديهي أن يتراود الى ذهنها رغبتنا في معرفة علاقتها كيهودية بالغالبية المسلمة في بلدها، فهي لا تختلف عنهم كثيرا في الشكل والمضمون انتماءا للوطن، حدّثتنا عن علاقتها الوطيدة بالتونسيين المسلمين سواء في الحي او المدرسة او حتى الجامعة تصف حياتها بالطبيعة مع باقي التونسيين.
عزيزة تتذكر جيدا لحظات مفصلية في حياتها وتسترجع معنا في شرود حينا وابتسامة عميقة أحيانا حدثا وصفته بالفاصل حين خلت الشوارع التونسية من الأمن والاستقرار إبان اندلاع الثورة في بلدها فأقدم تونسيون مسلمون من شباب لجان الاحياء (متطوعون ) بحراسة الحارة وحمايتهم.
لقد تفأجات أكثر عندما تعرضنا في سياق الحديث إلي الشأن السياسي إذ اكّدت عزيزة أنها انتخبت حزب حركة النهضة كمعظم يهود "الحارة" في حين تدخلت أمّها سعيدة لتؤكّد قناعتها بانتخاب حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي ينتمي إليه محمد المنصف المرزوقي الرئيس التونسي.
"إنهما حزبين محافظين ليسا ضدّ الاعتقاد الديني وينبذان التطرّف العلماني والانحلال الاخلاقي فنحن اليهود نتشارك مع المسلمين في هذه النقاط" على حد تعبير الابنة وأمها.
زادت الدهشة عندما تكلمت عزيزة عن علاقتها الودّية مع "سلفيين" درسوا معها في مدارج الجامعة.
لقد كان الحديث شيقا مع عائلة عزيزة بالرغم من منعنا تصويرهم لما تعتبره حرام في ديانتها اليهودية، تحاورنا حول تعايشهم مع مسلمي الحارة التي يقطنونها، فالعلاقة تجاوزت الاعتقادات الديني وترسّخت في عمق الروابط الاجتماعية التي تتعزز بالزيارات المتبادلة في الاعراس والحفلات وحتى اللاعياد الدينية.
سلّمنا على العائلة وهممنا الخروج، لقد كانت عزيزة من خلفنا تشير الى بيت جارهم تروي انه مسيحي الديانة، قبل أن تضيف :"فلم يبق للاسف سوى ثلاث عائلات مسيحية تسكن حارتنا.
وتابعت "لقد غادروا بطواعية نحو أوروبا بحثا عن تحسين مستوى عيشهم المادّي لا غير"، قبل أن يقول لسان حالها وهي تودعنا إن "حارة اليهود حكاية تعايش بطعم الوطن".