الدول العربية

"تستور".. حيث يحفر التونسيون قبورهم وهم على قيد الحياة

حفر "المَنزُول" عادة أندلسيّة انتشرت بين الأتراك والعرب

Aymen Cemli  | 20.02.2016 - محدث : 20.02.2016
"تستور".. حيث يحفر التونسيون قبورهم وهم على قيد الحياة

Tunisia

تستور (تونس ) / رشيد القروي / الأناضول

يقول المثل الشعبي التونسي "هذه نحكيها لحفار قبري'' ويستعمل للتعبير عن الاستغراب من موضوع ما، لدرجة عدم التصديق، بمعنى أنه من المستحيل أن أصدق ذلك كما أنه من المستحيل أن أتقابل مع من سيحفر قبري، لكن الاستثناء في المثل والعادة فرضه سكان مدينة تستور من محافظة باجة (شمال غربي تونس) لكونهم يحفرون قبورهم قبل مماتهم.

"ساحة النّارنج" أو"ساحة برتقال إشبيليا '' (وهو برتقال بمذاق مرّ)، تعتبر القلب النّابض لمدينة "تستور"، منذ تأسيسها خلال تلك الفترة، حين حطّ المُورسكيون رحالهم قادمين من الأندلس واختاروا هذه السّاحة لتنظيم رياضة مصارعة الثيران، وتحوّلت اليوم إلى ساحة يطيب فيها الجلوس والولوج إلى الحضارة الأندلسيّة، فمنها يبدأ سوق المدينة العتيق، كما تحيط بها أهمّ المعالم كالجامع الكبير بساعته ذات الدوران المعاكس، والمقبرة القديمة التي تتميّز بقبورها الخاوية.

ووفقا لمراجع التاريخ فقد عرفت هجرة الموريسكيين (الأندلسيين) إلى المغرب العربي (المغرب، الجزائر، تونس) ثلاث مراحل في القرن 13 والقرن 15 والقرن 17 الميلادي، وبلغ عدد الوافدين منهم على تونس فقط في القرن 17 أكثر من 80 ألف مهاجر، وأغلب الموريسكيين هم من مسلمي شمال إفريقيا، الذين صاحب بعضهم طارق بن زياد عند فتحه لإسبانيا.

ولذلك أمر فيليب الثالث ملك إسبانيا سنة 1609 بعد إعادة سيطرة الإسبان على السّلطة نظرا لضعف السّلطة الإسلامية في ذلك الزّمان، بتهجير كلّ الموريسكيين الذين لم يعتنقوا المسيحية فسكنوا شمال إفريقيا وأقاموا مدينة تستور شمال غربي تونس.

في السّاحة المذكورة يجلس يوميا رشيد السّوسي (67عاما) رئيس جمعيّة صيانة مدينة تستور؛ حيث يتصدّر المشهد اليومي بين أبناء الجهة (المنطقة) للحديث عن تاريخ "تكلّا" (الاسم الروّماني للمدينة)، محمّلا بمخطوطات وكتب يستدلّ بها ويستند اليها بين الحين والآخر.

من السّاحة ومن تحت أشجار النّارنج يراقب رشيد الحركة التي تكاد تكون يوميّة بمقبرة المدينة.

عن سرّ هذه الحركة يقول للأناضول، مشيرا إلى الحيّ الذي يسكن به "هناك منزلي وهنا مَنزُولي"، مشيرا إلى المقبرة، والمنزول عبارة عن قبر غير مسكون.

ويضيف "نحن الوحيدون الذين نختار أماكن قبورنا، ونعلم أين سندفن، ونحن بهذه العادة نعبّر عن استعدادنا للموت في أيّ وقت، فهذا المنزول يذكّرني دائما بالآخرة، وبأن أعمل صالحا لملاقاة ربّي".

هي عادة أندلسيّة نبعت من التعاليم الإسلامية، جعلت من المنزول صلة بين الحياة الدنيا والآخرة، وهي عادة ظهرت مع وصول الموريسكيين إلى تستور وانتشرت اليوم بين جميع سكّانها بجميع أصولهم ودون استثناء، هكذا قال السوسي.

وأضاف السوسي "هذه العادة انتشرت بين جميع السكّان من عرب وأندلسيّين وممن بقي من العائلات التركيّة، فامتزجت عاداتهم وثقافاتهم مكوّنة مزيجا مجتمعيّا أضاف لـ(تستور) ميزة ديمغرافيّة انفردت بها عن مثيلاتها من المدن الأندلسيّة ".

عن منشأ هذه العادة، يقول السوسي حسب ما تواتر إليه من حكايات، إنّ عددا من النّساء اللّواتي نُكّل بأزواجهن وبأبنائهن غداة سقوط مملكة غرناطة سنة 1492، توفّين قهرا وظللن أيّاما دون دفن، فظهرت هذه العادة بين من بقي على قيد الحياة من نساء ورجال، كما إنّ الإسلام يدعو إلى إكرام الميّت والإسراع بدفنه، وهذا دافع عقائدي آخر لظهور هذه العادة حتّى إذا مات أحدهم يكون قبره جاهزا لدفنه، ويكفي إزالة طبقة التراب والاسمنت التي تغطّيه لفتح المنزُول.

سبب آخر، يربطه المتحدث بالظروف المناخيّة وخاصّة خلال فصل الشتاء، إذ يتطلّب حفر القبور وقتا طويلا ومن هذا المنطلق فالمنزول يمثّل الحل الأنسب عندما تسوء الأحوال الجويّة.

أستاذ الحضارة والتاريخ زهيّر بن يوسف، نفى وجود نصوص تاريخيّة حول ظهور المنزول، مشيرا في كلامه للأناضول إلى عدّة تأويلات تتصدّرها دوافع عقائديّة منها الاستعداد الدّائم للموت.

وأضاف بن يوسف أنّ هذه العادة ظهرت في بعض المدن الأندلسيّة منها طبربة (محافظة منوبة / شمال) وسليمان (محافظة نابل/ شرق) إلاّ أن هذه العادة أخذت طريقها نحو الاندثار على عكس مدينة تستور التي احتفظت بها.

في المقبرة، التقينا عبد العزيز الهمّامي (62عاما)، وهو بنّاء أو ''حفّار القبور'' كما يسمّيه عامّة النّاس، يمارس هذه المهنة منذ 14 عامًا، حفر خلالها ما يزيد عن ألف قبر، لم يبق منها اليوم سوى 350 منزولا في هذه المقبرة، منها 50 خصّصها ميسورو الحال للفقراء والمحتاجين الذين يعجزون عن توفير تكاليف بناء المنزول والتي يقدّرها عبد العزيز بنحو250 دينار (حوالي 125 دولار).

لبناء المنزول الذي يستغرق يومين يستعمل هذا البنّاء ثمانين آجرّة وأربعة أكياس من الاسمنت، وكيسًا من الجبس، إضافة الى كمية من الرّمل، ويصل عمقه إلى متر واحد، أمّا طوله فيقدّر بمترين، في حين يبلغ عرضه 50 سنتمترا، وهي مقاسات تعتمد مع جميع النّاس مهما كانت أحجامهم أو أجناسهم.

يتكوّن المنزول وفقا لكلام الهمامي للأناضول، من جزأين؛ الحوض أو الجزء الأسفل الذي يدفن فيه الميّت، ثم بارتفاع 60 سنتمترا، يعتلي الحوض جانبان أكثر اتّساع منه، الجانب الأيمن ويبلغ عرضه 35 سنتمترا ويوضع عليه الجثمان لتسهيل وضعه لاحقا في القبر، والجانب الأيمن يبلغ عرضه عشرين سنتمترا، ويستغلّ الجانبان فيما بعد في وضع اللّحود عليهما.

بعد الانتهاء من بناء المنزُول تفرش أرضيته بالرّمل وتوضع اللّحود على شكل هرم ثمّ تغطّى بطبقة من التراب وأخرى من الاسمنت الهشّ حتى يسهل فتحه عند الحاجة، وفي النّهاية يوضع ''الشاهد'' (علامة) لمعرفة صاحبه.

الأخبار المنشورة على الصفحة الرسمية لوكالة الأناضول، هي اختصار لجزء من الأخبار التي تُعرض للمشتركين عبر نظام تدفق الأخبار (HAS). من أجل الاشتراك لدى الوكالة يُرجى الاتصال بالرابط التالي.
المواضيع ذات الصلة
Bu haberi paylaşın