تركيا, دولي, الثقافة والفن, التقارير

فيلم "بوظة تركية".. تاريخ من الحاضر (مقال رأي)

البوظة التركية أصبحت عنوانا في كثير من دول العالم، ولكن هل هذا الفيلم وما يحمله من قصة واقعية حدثت في عام 1915 بإحدى مدن أستراليا، هل سيصبح عنوانًا للسلام والاستقرار في عالم نسي قادته معاني وفنون القيادة والريادة؟

24.04.2019 - محدث : 24.04.2019
فيلم "بوظة تركية".. تاريخ من الحاضر (مقال رأي)

Istanbul

لندن / نسرين الهاشمي** / الأناضول

في خضم أحداث العالم الحديث ومجرياته المتخبطة والمتشرذمة في حروب مُعلنة وأخرى تسير في الخفاء تحت شعارات تنموية، يطل علينا المخرج جان ألكاي بفيلمه الجديد والذي يحمل عنوان "بوظة تركية" (Türk Isi Dondurma).

والبوظة التركية أصبحت عنوانا في كثير من دول العالم، ولكن هل هذا الفيلم وما يحمله من قصة واقعية حدثت في عام 1915 بإحدى مدن أستراليا، هل سيصبح عنوانًا للسلام والاستقرار في عالم نسي قادته معاني وفنون القيادة والريادة؟.

لقد شدني الفيلم بقصته حيث عشت معه تاريخ أمتي وأسرتي الشريفة، وأيضاً ما حلَّ على أمتنا الإسلامية والعربية نتيجة الخوض بحرب كانت بين الغرباء، لندفع حتى هذا اليوم أثمان أخطاء سلطان وبعض ممن ترقوا باتحادهم وأحبوا غرباً وفضلوه على الشرق!.

فهذه دماء أبناء أمتي من عرب وترك قد روت أشجار الزيتون وجرت بين جناديل المياه لتدخل أعماق الأرض، ليرتفع علم الأمة هناك براية التوحيد: الهلال والنجمة! كم كان جميلاً هذا الوقت والزمان: كنا نحن!.

منذ وفاة والدي المغفور له - بإذن الله - الأمير محمد بن فيصل الأول ملك العراق، كنت اعتزلت الكلام وقررت الصمت: عزمت على ألاّ أكتب، فلا من عين تبصر لتقرأ ولا من أذن تصغي.

ولكن أتى المخرج جان ألكاي بفيلمه "بوظة تركية" ليخرجني عن صمتي ويجذبني تجاه إبداع يحمل في طياته رسائل الحب والسلام عبر سرد تاريخ مؤلم فيه من الابتسامة ضحكة ومن الألم أمل.

لقد جذبني هذا الفيلم نحو معاهدات أبرمت في القرن العشرين وما تلاها في بداية هذا القرن، والتي ينتج عنها إملاءات تمس حياة الإنسان بشكل يومي، بعضها يطبق وآخر يبقى حبرًا على ورق !.

ونحن على أعتاب مرور مائة عام على معاهدة فرساي، والتي وقعت في يوم 28 يونيو/ حزيران العام 1919، وأسدلت الستار رسمياً على الحرب العالمية الأولى ومن بعدها تغيرت خريطة العالم وأنشأت الهيئة الدولية "عصبة الأمم"، يأتي الفيلم "بوظة تركية" ليضعنا أمام واقع تاريخي.

والواقع يبدأ بالحرب العالمية الأولى وكيف قامت القوة المستعمرة لأستراليا آنذاك وهي بريطانيا بالتجنيد القسري لشباب ورجال مستعمراتها ليحاربوا معها على أرض ليست لهم.

ويأتي مع ذلك كيف كانت النساء يخرجن في مظاهرات من أجل السلام وحث رجالهن على البقاء في البلد لتنميتها، لم يرق ذلك للقائد العسكري البريطاني والذي اعتبر هذه المظاهرات ضد أهداف الحرب.

لم يتأخر القائد بأمر جنوده بالاعتداء على النساء وسجن من يعترض على الانضمام للجيش البريطاني فحسب، بل جعل من الشباب المهاجرين الأتراك أعداء للوطن وصاحب الجلالة، فلا من مشتري يشتري تلك البوظة التركية اللذيذة ولا من طفل يسمح له بركوب ذلك الجمل.

ضاق الحال على المهاجرين الأتراك حتى أنهم قرروا العودة لوطنهم ولكنهم مُنعوا من ذلك أيضا: "هل سأمنحكم إذن السفر لتذهبوا وتقتلوا جنودنا؟!"، وهنا علم الأتراك بما يعده القائد العسكري ضد وطنهم وما يدور من حرب هناك، وأن هؤلاء الجنود ذاهبون لاحتلال أرضهم.

فقرروا أن يمنعوا آلاف الجنود من الوصول للأناضول وأعلن الرجلان محمد وعلي الحرب على القائد العسكري البريطاني، زوجة علي تقول له: "يمكن للطفل أن يعيش بلا أب ولكنه لا يستطيع العيش بلا وطن"، وتخيط لزوجها العلم التركي.

فما كان من القائد إلا أن يأمر جنوده بقتل النساء والأطفال من الأتراك والأستراليين الذين كانوا في البيت عند محاولته القبض على الرجلين.

ودارت المعركة: رجلان تركيان مقابل لواء جيش!! أوقعا بهم الخسائر ونفدت الذخيرة ليستشهدا على أيدي أصدقائهم الذين في يوم ما دافعوا عنهم وحموهم من شر أبناء جلدتهم.

للوهلة الأولى عند مشاهدتي الفيلم، خاصة مع خروج النساء في المظاهرات ضد الحرب ومناداتهن بالسلام وطباعتهن للمنشورات وغيرها، سرعان ما استحضر المشهد في ذاكرتي قرار مجلس الأمن لهيئة الأمم المتحدة رقم 1325 الذي أقر في 8 مارس/ آذار لعام 2000 ، والذي يحمل عنوان: المرأة والسلام والأمن.

ينص القرار على الدور الهام للمرأة في منع الصراعات وحلها وفي بناء السلام، ويشدد على أهمية مساهمة المرأة المتكافئة ومشاركتها الكاملة في جميع الجهود الرامية إلى حفظ السلام والأمن وتعزيزهما، وعلى ضرورة زيادة دورها في صنع القرار المتعلق بمنع الصراعات وحلها.

هذا القرار الأممي جاء بعد أكثر من ثمانية عقود، إلا أن الفيلم يوضح هذا القرار بصورة واقعية حيث يدعو إلى فهم آثار الصراع المسلح على المرأة والفتاة، لأن المدنيين، ولا سيما النساء والأطفال، يشكلون الأغلبية العظمى من المتأثرين سلبا بالصراع المسلح.

وهذا ما طالبت النساء به في الفيلم وأوضحت الأحداث أن النساء والأطفال لم يسلمن من القتل والعنف النفسي والجسدي، وذلك هو الواقع في الحياة وترجم في أحداث الفيلم.

لم يكن في ذاك الوقت من أحداث الفيلم أية حقوق للمرأة الغربية، فكيف لصوتها الداعي للسلام وحفظ أرواح الأبرياء أن يسمع؟ لقد استطاع كاتب الفيلم ومخرجه من تجسيد القرار 1325 والدعوة بصورة غير مباشرة لأهمية دور المرأة في بناء السلام.

وقد أظهر الفيلم كيف يتم خلق روح العداوة بين الناس لتحقيق مطامع شخصية أو حتى تلك الاستعمارية، فهذان الرجلان كانا يعيشان بسلام، يعملان جاهدين من أجل لقمة العيش، يحلمان بمستقبل فيه حياة أفضل، لم ير أي من الناس الفروق بينهما وبين أصدقائهما الأتراك، حتى وإن كانت اللغة عائق بمحطات، إلا أنها لم تكن تشكل حاجزًا بين محمد وعلي وباقي المجتمع.

ولكن بلمح البصر يأتي قائد عسكري مريض نفسيا بحب السلطة والتسلط لينشر الفرقة بين الناس والعنصرية ليصبح محمد وعلي إرهابيين وأعداء الدولة حتى بنظر الأصدقاء والجيران والعامة من عموم الشعب!.

ما أشبه الأمس باليوم: ففي عصرنا الحالي انتشرت أنواع مختلفة من قيادات التسلط والتي بمختلف حملاتها الانتخابية اتخذت من الشعارات العنصرية سبيلًا للفوز بالمناصب والظفر بالاغتناء على حساب هذا وذاك، وتلك الأخرى الطامحة لبسط النفوذ والسيطرة على خيرات وموارد من أجل حفنة الدولارات لم تتأخر يوما بصنع الإرهاب وتمويله.

وبكلا الحالتين، ليس للإنسان قيمة، فلا حياته لها أهمية، ولا أحلامه لها معنى، وإذا بالإنسان الذي ولدته أمه حراً يصبح عبداً! يساق هناك لقتل وتدمير الآخر وإن كان من أحببهم يوما.

يا له من واقع نعيشه منذ قرن، جيل بعد جيل ! ويأتي صانع "البوظة التركية" ليضعنا أمام تاريخ فيه من الحاضر الواقع كله خاصة عن أهمية القرار الأممي للجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (٢١٠٦ ألف د- ٢٠) ، المؤرخ بتاريخ ٢١ / كانون الأول/ ديسمبر ١٩٦٥.

وينص القرار على القضاء على جميع رفض أنواع التمييز العنصري وشجب الاستعمار وجميع ممارسات العزل والتمييز المقترنة به وضرورة تأمين فهم كرامة الشخص الإنساني واحترامها، والحقوق المدنية للإنسان خاصة تلك المادة التي تنص على الحق في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، وفي العودة إلي بلده.

واستطاع صانع "البوظة التركية" أن يحيي بداخلي أهمية هذا القرار والعمل به في وقتنا الحاضر، والحاجة الماسة لتطبيقه أولاً في بلدان العضوية الدائمة التي كانت بدأت الحرب وبعده السلام لتحل العصبة وتستبدلها بهيئة الأمم.

أثناء عرض الفيلم، تمنيت لو كان البطل العالمي محمد علي (كلاي)، حيًا ليشاهده، ففي مشهد يوضح عدم رغبة العديد من رجال أستراليا الذهاب إلى الحرب، استذكرت موقف محمد علي من الحرب على فيتنام ورفضه الانضمام للجيش الأمريكي لأنه كمسلم لا يعتدي على بلاد العالم ولكنه إذا ما اعتدى شخص على وطنه أمريكا سيكون أول المدافعين عنه.

وكان نتيجة هذا الموقف أن سجن محمد علي وسحبت منه الميداليات وكافة الحقوق الأخرى، وكأنه كان له حقوق في ذلك الوقت، فقد كان محمد علي أسود لا يحق له ما يحق للأبيض!.

وما أشبه موقف علي ومحمد في الفيلم بموقف محمد علي كلاي: لا يعتديان ولكن يستميتان من أجل الدفاع عن الوطن، وهذا مبدأ لا يقبل المساومة، لأن هذا الموقف يتلخص في الآية الكريمة رقم 190 من سورة البقرة: "وقاتِلوا في سبيلِ الله الَّذين يُقاتِلونَكُم ولا تَعتَدوا إنَّ الله لا يُحبُّ المُعتَدينَ".. صدق الله العظيم .

لقد استطاع المخرج أن يوثق بصورة إنسانية الأعداد الهائلة من القتلى في هذه الحرب! فالجيش العثماني بعربه وأتراكه وأكراده وجميع الفئات التي كانت تستظل بالدولة العثمانية، هو المدافع عن أرضه؛ وأعداد الغرباء المعتدين من القوى الاستعمارية.

لا أعلم إذا كل من سقط في أوروبا أثناء الحرب لهم قبور، ولكن على الأرض التركية قبور الكل من الكل: اليهودي والمسيحي والمسلم!.. أعتقد أن مشهد القبور وشواهدها يحمل معاني كثيرة أهمها تتلخص بفلسفة ومبادئ الحياة.

الإنسان من تراب خلق وإلى التراب يعود، التراب لم يفرق بين هذا وذاك: معتد ومدافع، الكل تساووا تحت التراب، ويا ليتهم حقاً يتساوون فوقها.

الأديان تجمعت في هذا المشهد، وتجمعت معها وحدة الإيمان ومفاهيمه،، الحرب دمار، وأصحاب القبور غابوا من الذاكرة، وبقي في عالمنا من أحفاد صانعيها، أترى سيبصرون هذا المشهد ويتفكروا: ماذا سيبقى منهم؟.

غاب صانعوا الحرب، وبقي الشهداء على الحق شواهد وما زال العلم بهلاله ونجمته يرفرف! هناك الكثير من المشاهد التي تعطي للمرأة قيمتها وأهميتها، وتبين بالحقائق أهمية الإنسان وحقوقه، وأهمها حقه بالحياة التي منحها الخالق له.

حمل الفيلم بكل مشهد به الوطن سواء كان هذا الوطن تركيا أو أي وطن آخر، فهو يستحق الدفاع عنه من أجل السلام لكل ما فيه: شجره ومخلوقاته وإنسانه.

"البوظة التركية" بأي نكهة كانت، تحمل بطياتها سلام الذات وحبها والاستمتاع بمذاقها، وهذه هي الحياة !.

ليس كل من سيشاهد الفيلم سيفهم معانيه، فهناك من سينظر إلى القائد الإنجليزي العنصري على أنه دعاية ضد المملكة المتحدة، وهناك من سيرى أن هذه القصة تدعو لنشر الحراك الوطني والقومي العنصري، وآخرون سينظرون إليه أنه يمجد بطولة الأتراك خاصة في هذا الوقت الذي يحتاج الناس فيه لبطل بحياتهم.

فهم المعاني المترجمة بالحقائق تعتمد على كيف ومن يقرأ أحداث الفيلم ومدى فهم الإنسان القارئ له.

قد يواجه هذا الفيلم الكثير من المعوقات لمنع عرضه في دور سينما العالم

وقد لا يعرض أبدا ويبقى في قائمة الأفلام التي أنتجت في الأدراج لأنه ليس هوليوديا!.

كل هذا يعتمد على كيفية قراءة المشهد بالأحداث، ولكن ليس هناك من أي شك أن هذا الفيلم هو قراءة في تاريخ لمعرفة الحاضر وخوض الحياة المستقبلية بخطوات الحب والسلام.

ومع حلول يوم 23 نيسان/أبريل، يوم الأطفال والسيادة التركية، حيث يمنح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منصبه لأحد الأطفال لمدة يوم، تمنيت لو أنني طفلة وسأنال يومها منصب رئيس الجمهورية التركية.

حينها لاتخذت قرار منح وسام الجمهورية من الدرجة الأولى لصانعي "البوظة التركية" من مخرج وكاتب وشركة إنتاج وممثلين!.

------------------------------------------------------------------------------------------

** بقلم صاحبة السمو الملكي الأميرة الدكتورة نسرين بنت الأمير محمد بن الملك فيصل الأول ملك العراق الهاشمي

الأخبار المنشورة على الصفحة الرسمية لوكالة الأناضول، هي اختصار لجزء من الأخبار التي تُعرض للمشتركين عبر نظام تدفق الأخبار (HAS). من أجل الاشتراك لدى الوكالة يُرجى الاتصال بالرابط التالي.
المواضيع ذات الصلة
Bu haberi paylaşın