إضاءات عثمانية

استجابات عثمانية لصرخات أندلسية (إضاءات عثمانية)

العثمانيون بذلوا جهودا كبيرة لنصرة الأندلسيين، لكنهم واجهوا عقبات حالت دون تحريرهم للأندلس، أهمها الوجود البرتغالي في المنطقة والاستهداف الصليبي لمكة والمدينة، وخطر الدولة الصفوية، والنشاط الصليبي بعد فتح القسطنطينية

26.10.2021 - محدث : 26.10.2021
استجابات عثمانية لصرخات أندلسية (إضاءات عثمانية)

Istanbul

إسطنبول / إحسان الفقيه / الأناضول

ـ الدعم العثماني لمسلمي الأندلس بدأ بعد تلقي السلطان بايزيد الثاني رسالة استغاثة منهم، فتحالف مع الملك الأشرف وأرسل أسطوله إلى سواحل الأندلس بقيادة كمال رئيس، أول من أجل المسلمين واليهود معا من البطش الإسباني
ـ في سياق جهود العثمانيين لنصرة الأندلسيين ظهرت أسماء بارزة كان لها دور كبير في هذا الشأن، منهم كمال رئيس، وخير الدين بربروس، وحسن فنزيانو، وقلج علي

في سياق حملات ممنهجة لتشويه التاريخ العثماني، برزت دعوى مفادها أن الدولة العثمانية لم تحرك ساكنا تجاه سقوط الأندلس في أيدي الإسبان رغم استغاثات أطلقها مسلمو الأندلس، وذلك في محاولة لتأكيد الزعم بأن الدولة العثمانية كانت تتستر بالإسلام ولم يكن يعنيها شأن الأمة الإسلامية بقدر اهتمامها بأطماعها الاستعمارية.

والحقيقة أن أصحاب هذا الادعاء لم يطالعوا كتب التاريخ أو تجاهلوا مطالعتها، واعتمدوا في ترويجه على تزاحم وتدفق التهم في هذه الآونة، لتستهدف الجماهير التي لن تتكلف عناء البحث والتنقيب في هذه الكتب.

ولأن ما يُكتب حاليا عن الدولة العثمانية ومحاولة إبرازها في شكل سيء ليس هو نظرة العرب الحقيقية للأتراك وتاريخهم قبل هذه الموجة من الطعن، فقد آثرنا الإشارة في رد هذه الشبهة إلى مرجع عربي هام.

وهذا المرجع هو رسالة دكتوراه صادرة عن جامعة "أم القرى" في المملكة العربية السعودية، بعنوان "جهود العثمانيين لإنقاذ الأندلس واسترداده في مطلع العصر الحديث"، للدكتور نبيل عبد الحي رضوان.

وقد أفاض البيان عن جهود الدولة العثمانية لإنقاذ الأندلس، وقبل ذلك تناول العقبات التي واجهت الدولة العثمانية لإتمام هذا المشروع، فيقول مثلا عن عقبة الأخطار الصفوية: "إن ظهور الصفويين في المشرق كان عائقا أمام تقدم العثمانيين في الغرب، لأن مجهود الدولة كان موزعا في الشرق والغرب، وبالتالي يقلل من قوة الهجوم تجاه التقدم في وسط أوروبا".

ومن العقبات أيضا التي أوردها المؤلف، وصول البرتغاليين إلى المحيط الهندي وتهديد الحدود الجنوبية للعالم الإسلامي، والاستهداف الصليبي لمكة والمدينة، إضافة إلى النشاط الصليبي عقب الفتح العثماني لمدينة القسطنطينية (1453م). وبالرغم من تلك العقبات إلا أن الدولة العثمانية بذلت محاولات متتابعة وقوية لتحرير الأندلس من الاحتلال الإسباني.

قبل أن تتولى الدولة العثمانية راية قيادة العالم الإسلامي، منذ سيطرة السلطان سليم على مصر والشام والحجاز واليمن عام 1516م، كان العدوان الإسباني على أشده، ووجّه المسلمون في الأندلس استغاثات إلى حكام الشمال الإفريقي، إلا أن الانقسامات بين هؤلاء الحكام حالت دون استجابتهم.

في هذه الفترة كانت الجيوش العثمانية تتقدم في أوروبا الشرقية، وأحدثت تأثيرات على مصير الأمراء الغربيين، ما أعطى العثمانيين ثقلا سياسيا وعسكريا على الصعيد الأوروبي، وهو ما لفت أنظار أهل غرناطة للاستنجاد بهذه الدولة الفتية.

لكن السلطان محمد الفاتح، الذي كان قد فتح جبهة في أوروبا، لم يستطع تلبية نداءاتهم لتخليصهم من البطش الإسباني.

أعاد مسلمو الأندلس مراسلة الدولة العثمانية، التي تولى زمامها بايزيد خلفا لأبيه محمد الفاتح، فأرسلوا له رسالة مؤثرة أورد نصها شهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني في كتابه "أزهار الرياض في أخبار عياض".

وفي هذا الوقت، كان السلطان بايزيد يعاني من مشاكل تتعلق بالنزاع على العرش، ومشاكل أخرى مع البابوية في روما، ومواجهة تحالف صليبي جديد قوي.

ورغم ذلك، سارع إلى التعاون مع السلطان المملوكي الأشرف، لتوحيد الجهود لنصرة أهالي غرناطة، التي سقطت في أيدي الإسبان (عام 1492م)، ووقعا اتفاقا يقضي بإرسال بايزيد أسطولا بحريا إلى الشواطئ الإسبانية، بقيادة كمال رئيس.

وبالفعل أثار كمال رئيس الرعب في الأساطيل الصليبية، وكان أول من نقل أعدادا كبيرة من مسلمي الأندلس المضطهدين وتوطينهم في الأناضول، كما نقل معهم أعدادا كبيرة من يهود الأندلس المضطهدين، وعاشوا في كنف الدولة العثمانية.

لم يكتف السلطان بايزيد بإرسال أسطوله البحري، وإنما شجع البحارة العثمانيين على شن غاراتهم على القوات الإسبانية والتحرك لنجدة مسلمي الأندلس.

ولما برز على الساحة التركيان عروج وخير الدين بربروس، وطدا نفوذهما في الجزائر وأصبحا ينوبان عن الدولة العثمانية في هذه البقاع التي لم تسلم من بطش الإسبان وحلفائهم في الداخل، وسارت جهودهما في اتجاهين: تحقيق الاستقرار في الشمال الإفريقي، ومساعدة مسلمي الأندلس.

وفي هذا يقول خير الدين بربروس في مذكراته عن أول عمليات الإنقاذ: "دمر الإسبان وأحرقوا جميع المساجد، وكلما عثروا على مسلم صائم أو قائم عرضوه وأولاده للعذاب والإحراق، خلال ذلك قمنا بحمل عدد كبير من المسلمين في السفن وإنقاذهم من أيدي الكفار ونقلهم إلى الجزائر وتونس".

وعندما حكم خير الدين الجزائر، تحت رعاية السلطان سليم بشكل رسمي، استمر تدفق الدعم من الدولة العثمانية لحاكم الجزائر لإنقاذ مسلمي الأندلس.

وأرسل خير الدين مساعده آيدين رئيس للتوغل في مضيق سبتة (جبل طارق)، واحتلال سواحل إسبانيا والعودة بأكبر عدد ممكن من مسلمي الأندلس.

وبالفعل، حمل آيدين أعدادا كبيرة من مسلمي الأندلس حتى لم يبق في سفنه موضع قدم فارغ، وقد اعترضهم أسطول ضخم للإسبان، فاضطر القائد العثماني إلى إنزال مسلمي الأندلس على السواحل، لحين انتهاء المعركة، وبعد معركة دامية انتصر فيها على العدو، قام بحمل الأندلسيين مرة أخرى.

وبلغت انتصارات الأسطول العثماني المتتابعة أسماع الأندلسيين، فثاروا على الإسبان، ونزل منهم ثمانون ألفا كانوا معتصمين في الجبال، وقاوموا القوات الإسبانية، فخرج القائد البحري العثماني محمد رئيس، على رأس 36 سفينة لإمداد الثوار في السواحل الإسبانية.

وبلغ اهتمام القيادة العثمانية بقضية الأندلس أوجها في عهد السلطان سليمان القانوني، وقد أرسل إلى "بايلر باي" الجزائر خير الدين رسالة يقول فيها: "إلى بايلر باي إيالة الجزائر، الغازي خير الدين باشا، اعلم بأني عازم على غزو ملك إسبانيا، فإذا وصلك كتابي هذا فاستخلف رجلا تعتمد عليه وأقدم علي في إسطنبول".

وبعد تعيين خير الدين قبطانا عاما على الأسطول العثماني، كثّف من نشاطه البحري ضد الإسبان ونجدة الأندلسيين، حتى أنه أحصى أكثر من عشرين عملية إنقاذ.

وفي عام 1582م، جهز الوالي العثماني في الجزائر أسطولا لمحاربة الإسبان على أرضهم ونجدة مسلمي الأندلس، فنزلوا في برشلونة، ثم عبروا مضيق جبل طارق، وهاجموا جزر الكنارى التي تحتلها إسبانيا.

وفي 1584م، أبحر القائد العثماني حسن فنزيانو بأسطوله على ثغر بلنسية وحمل أعدادا كبيرة من مسلمي الأندلس لإنقاذهم من بطش الإسبان، كما استطاع في العام التالي إنقاذ جميع سكان كالوسا الإسبانية وحملهم إلى الجزائر.

ومن أكثر القادة العثمانيين الذين بذلوا جهودا كبيرة في دعم ونصرة مسلمي الأندلس، القائد قلج علي، الذي عَيَّنَه السلطان سليم الثاني أميرا على الجزائر، خلفا لحسن بن خير الدين بربروس.

وعُرف عن قلج علي عاطفته الجياشة تجاه محنة مسلمي الأندلس، وكان له مشروع يتمثل في تحرير الشمال الإفريقي كله من النفوذ الإسباني والبرتغالي، ثم الاتجاه لتحرير الأندلس وإعادتها إلى حظيرة الأمة الإسلامية.

ومع اندلاع ثورة الأندلسيين ضد الإسبان، اتخذ قلج علي عدة خطوات لدعم المسلمين في الأندلس، فأقام قنوات اتصال دائمة مع قادة الثورة، وأشرف رجال مخابراته على هذه القنوات، واتخذ من مدينتي مستغانم ومازغران الجزائريتين قاعدة لتجميع المتطوعين المتجهين إلى الأندلس.

ورغم تدمير أسطوله الذي أرسله إلى الأندلس، إلا أنه أنزل أربعة آلاف جندي للقتال إلى جانب القوات الأندلسية ضد الإسبان.

ونلحظ فيما سبق أن الحديث عن جهود دعم الأندلسيين محصور في الولاة العثمانيين في الجزائر، لأنها كانت قاعدة المواجهة العثمانية للإسبان، تحت رعاية السلاطين، نظرا لقرب الجزائر من إسبانيا.

تلك الإشارات التاريخية السريعة إلى جهود العثمانيين لتحرير الأندلس، تدحض ادعاءات تخلي الدولة العثمانية عن مسلمي الأندلس بعد سقوط غرناطة، فقد حملت الدولة العثمانية راية قيادة العالم الإسلامي، وتعاملت في سياساتها الخارجية من منطلق كونها القوة المسؤولة عن سلامة وأمن الأمة الإسلامية.

ومن يرجع إلى ما كتبه مؤرخون عرب قبل انطلاق هذه الحملات الشعواء على تركيا، يدرك أن العرب كانوا ينظرون إلى الدولة العثمانية على أنها صفحة تاريخية مشرقة في حياة الأمة.

الأخبار المنشورة على الصفحة الرسمية لوكالة الأناضول، هي اختصار لجزء من الأخبار التي تُعرض للمشتركين عبر نظام تدفق الأخبار (HAS). من أجل الاشتراك لدى الوكالة يُرجى الاتصال بالرابط التالي.